الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              3694 3906 - قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي- وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم- أن أباه أخبره، أنه سمع سراقة بن جعشم يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر دية كل واحد منهما، من قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم، حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا. ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي- من وراء أكمة- فتحبسها علي، وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحططت بزجه الأرض، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فرفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره، فركبت فرسي، وعصيت الأزلام، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات- ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة، إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان فوقفوا، فركبت فرسي حتى جئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 527 ] عنهم أن سيظهر أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية. وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني، إلا أن قال: أخف عنا. فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أديم، ثم مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشأم، فكسا الزبير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه، حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم، أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون. فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند ذلك، فلبث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم ركب راحلته فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين بركت به راحلته: "هذا إن شاء الله المنزل". ثم دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الغلامين، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: لا، بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجدا، وطفق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينقل معهم اللبن في بنيانه، ويقول وهو ينقل اللبن:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 528 ]

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر"



                                                                                                                                                                                                                              ويقول:


                                                                                                                                                                                                                              اللهم إن الأجر أجر الآخره     فارحم الأنصار والمهاجره "



                                                                                                                                                                                                                              فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي.
                                                                                                                                                                                                                              قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تمثل ببيت شعر تام غير هذا البيت. [فتح: 7 \ 238]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية