الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ قاعدة في بيان متى يعمل بالظاهر ]

وها هنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها ، وهي أن الشارع إنما قبل توبة [ ص: 106 ] الكافر الأصلي من كفره بالإسلام لأنه ظاهر لم يعارضه ما هو أقوى منه ، فيجب العمل به ; لأنه مقتض لحقن الدم والمعارض منتف ، فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه ، فإظهاره بعد القدرة عليه للتوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولا ظنية ، أما انتفاء القطع فظاهر ، وأما انتفاء الظن فلأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه ، فإذا قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن بخلافه ، ولهذا اتفق الناس على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه ، وإن شهد عنده بذلك العدول ، وإنما يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها ، وكذلك لو أقر إقرارا علم أنه كاذب فيه مثل أن يقول لمن هو أسن منه " هذا ابني " لم يثبت نسبه ولا ميراثه اتفاقا ، وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر الواحد العدل والأمر والنهي والعموم والقياس إنما يجب اتباعها إذا لم يقم دليل أقوى منها يخالف ظاهرها .

وإذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته ، وتكذيبه واستهانته بالدين ، وقدحه فيه ; فإظهاره الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا ، وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة ; فلا يجوز الاعتماد عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوي وإعمال الدليل الضعيف الذي قد ظهر بطلان دلالته ، ولا يخفى على المنصف قوة هذا النظر وصحة هذا المأخذ ، وهذا مذهب أهل المدينة ومالك وأصحابه والليث بن سعد ، وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة ، وهو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه ، بل هي أنص الروايات عنه ، وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يستتاب ، وهو قول الشافعي ، وعن أبي يوسف روايتان ; إحداهما : أنه يستتاب ، وهي الرواية الأولى عنه ، ثم قال آخرا : أقتله من غير استتابة ، لكن إن تاب قبل أن يقدر عليه قبلت توبته ، وهذا هو الرواية الثالثة عن أحمد

ويا لله العجب ، كيف يقاوم دليل إظهاره للإسلام بلسانه بعد القدرة عليه أدلة زندقته وتكررها منه مرة بعد مرة وإظهاره كل وقت للاستهانة بالإسلام والقدح في الدين والطعن فيه في كل مجمع ؟ مع استهانته بحرمات الله واستخفافه بالفرائض وغير ذلك من الأدلة ؟ ولا ينبغي لعالم قط أن يتوقف في قتل مثل هذا ، ولا تترك الأدلة القطعية لظاهر قد تبين عدم دلالته وبطلانها ، ولا تسقط الحدود عن أرباب الجرائم بغير موجب .

نعم لو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والأعمال ما يدل على حسن الإسلام وعلى التوبة النصوحة ، وتكرر ذلك منه ، لم يقتل كما قاله أبو يوسف وأحمد في إحدى الروايات وهذا التفصيل أحسن الأقوال في المسألة . [ ص: 107 ] ومما يدل على أن توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه قوله تعالى : { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا } قال السلف في هذه الآية : { أو بأيدينا } بالقتل إن أظهرتم ما في قلوبكم ، وهو كما قالوا ; لأن العذاب على ما يبطنونه من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل ; فلو قبلت توبتهم بعد ما ظهرت زندقتهم لم يمكن المؤمنين أن يتربصوا بالزنادقة أن يصيبهم الله بأيديهم ; لأنهم كلما أرادوا أن يعذبوهم على ذلك أظهروا الإسلام فلم يصابوا بأيديهم قط ، والأدلة على ذلك كثيرة جدا ، وعند هذا فأصحاب هذا القول يقولون : نحن أسعد بالتنزيل والسنة من مخالفينا في هذه المسألة المشنعين علينا بخلافها ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية