الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ البيع بشرط البراءة من العيوب ]

المثال الثاني والستون : إذا باعه جارية معيبة وخاف ردها عليه بالعيب فليبين له من عيبها ويشهد أنه دخل عليه ، فإن خاف ردها بعيب آخر لا يعلمه البائع فليعين له عيوبا يدخل في جملتها وأنه رضي بها كذلك فإن كان العيب غير متصور ولا داخل في جملة تلك العيوب فليقل : " وأنك رضيت بها بجملة ما فيها من العيوب التي توجب الرد " مقتصرا على ذلك . ولا يقل : " وأنك أسقطت حقك من الرد " ولا : " أبرأتني من كل دعوى توجب الرد " ولا يبيعها بشرط البراءة من كل عيب ; فإن هذا لا يسقط الرد عند كثير من الفقهاء ، وهي مسألة البيع بالبراءة من العيوب .

وللشافعي فيها ثلاثة أقوال ; أحدها : صحة البيع والشرط ، والثاني : صحة البيع وفساد الشرط وأنه لا يبرأ من شيء من العيوب ، والثالث : أنه يبرأ من العيوب الباطنة في الحيوان خاصة دون غيرها . والمشهور من مذهب مالك جواز العقد والشرط وأنه يبرأ من جميع العيوب . وهل يعم ذلك جميع المبيعات أو يخص بعضها ؟ فذكر ابن حبيب عن مالك وابن وهب أنه يعم جميع المبيعات عرضا كان المبيع أو حيوانا . وعنه أنه يختص ببعض المبيعات . واختلف عنه في تعيينه فالذي في الموطإ عنه أنه يختص بالحيوان ناطقا كان أو بهيما . والذي في التهذيب اختصاصه بناطق الحيوان .

قالوا : وعلى [ هذا ] المذهب في صحة ذلك مطلقا ، فبيع السلطان وبيع الميراث إذا علم أنه ميراث جار مجرى بيع البراءة وإن لم يشترط ، وعلى هذا فإذا قال : أبيعك بيع الميراث لا قيام بعيب صح ذلك ويكون بيع براءة ; وفي الميراث لا يحتاج إلى ذكره .

قالوا : وإذا قلنا إن البراءة تنفع فإنما منفعتها [ في ] امتناع الرد بعيب لم يعلم به البائع ; وأما ما علم به البائع فإن شرط البراءة لا يمنع رد المشتري به إذا لم يكن عالما به وقت العقد ; فإذا ادعى المشتري علم البائع فأقر أو نكل بعد توجه اليمين عليه توجه الرد عليه .

قالوا : ولو ملك شيئا ثم باعه قبل أن يستعمله بشرط البراءة لم ينفعه ذلك حتى يستعمله ويستبرئه ثم يبيعه بشرط البراءة .

قال في التهذيب في : التجار يقدمون بالرقيق [ ص: 304 ] فيبيعونه بالبراءة ولم تطل إقامة الرقيق عندهم : هؤلاء يريدون أن يذهبوا بأموال الناس باطلا ، لا تنفعهم البراءة . وقال عبد الملك وغيره : لا يشترط استعماله ، ولا طول مقامه عنده ، بل تنفعه البراءة كما تنفعه مع الطول والاستعمال .

قالوا : وإذا كان في المبيع عيب يعلمه البائع بعينه فأدخله في جملة عيوب ليست موجودة ، وتبرأ منها كلها ، لم يبرأ منه حتى يفرده بالبراءة ويعين موضعه وجنسه ومقداره بحيث لا يبقى للمبتاع فيه قول .

قالوا : وكذلك لو أراه العيب وشاهده لم يبرأ منه إذا كان ظاهره لا يستلزم الإحاطة بباطنه وباطنه فيه فساد آخر كما إذا أراه دبرة البعير وشاهدها وهي منغلة مفسدة فلم يذكر له ما فيها من نغل وغيره ، ونظائر ذلك .

قالوا : وكذلك لو أخبره أن به إباقا أو سرقة وهو إباق بعبد أو سرقة عظيمة والمشتري يظنه يسيرا لم يبرأ حتى يبين له ذلك ، قال أبو القاسم بن الكاتب : لا يختلف قول مالك في أن بيع السلطان بيع براءة على المفلس أو لقضاء ديون من تركة ميت بيع براءة أيضا وإن لم يشترطها ، قال : وإنما كان كذلك ; لأنه حكم منه بالمبيع وبيع البراءة مختلف فيه ، فإذا حكم السلطان بأحد أقوال العلماء لم ترد قضيته عند من يرى خلاف رأيه فيما حكم به ، ورد ذلك عليه المازري وغيره ، وقالوا : السلطان لم يتعرض في البيع إلى خلاف ولا وفاق ، ولا قصد إلى حكم به يرفع النزاع ، وقد حكى بعض الشيوخ الخلاف في بيع البراءة ولو تولاه السلطان بنفسه ، قال : وذلك ; لأن سحنونا قال : وكان قول مالك القديم أن بيع السلطان وبيع الوارث لا قيام فيه بعيب ولا بعهدة ، قال : وهذا يدل على أن له قولا آخر خلاف هذا ، قال : ويدل عليه أن ابن القاسم قال : إذا بيع عبد على مفلس فإن للمشتري أن يرده بالعيب ، قال : فالصواب أن بيع السلطان وبيع الورثة كغيرهما .

قال المازري : أما بيع الورثة لقضاء ديونه وتنفيذ وصاياه فإن فيه الخلاف المشهور ، قال : وأما ما باعوه لأنفسهم للانفصال من شركة بعضهم لبعض فملتحق ببيع الرجل مال نفسه بالبراءة ، وكذلك من باع للإنفاق على من في ولايته .

قلت : وقول المازري : " إن بيع السلطان لا تعرض فيه لحكم " مبني على أصل ، وهو أن الحاكم إذا عقد بنفسه عقدا مختلفا فيه هل يكون بمنزلة حكمه به [ فيسوغ تنفيذه ، ولا يسوغ رده أو لا يكون حكما منه به ] فيسوغ لحاكم آخر خلافه ؟ وفي هذا الأصل قولان للفقهاء ، وهما في مذهب الإمام أحمد وغيره ، فهذا تقرير مذهب مالك في هذه المسألة .

وأما مذهب أبي حنيفة : فإنه يصحح البيع والشرط ، ولا يمكن المشتري من الرد بعد اشتراط البراءة العامة ، سواء علم البائع العيب أو لم يعلمه ، حيوانا كان المبيع أو غيره ، [ ص: 305 ] وتناظر في هذه المسألة أبو حنيفة وابن أبي ليلى ، فقال ابن أبي ليلى : لا يبرأ إلا من عيب أشار إليه ووضع يده عليه ، فقال أبو حنيفة : فلو أن امرأة من قريش باعت عبدا زنجيا على ذكره عيب أفتضع أصبعها على ذكره ؟ فسكت ابن أبي ليلى .

وأما مذهب الإمام أحمد فعنه ثلاث روايات ; إحداهن : أنه لا يبرأ بذلك ولا يسقط حق المشتري من الرد بالعيب إلا من عيب عينه وعلم به المشتري . والثانية : أنه يبرأ مطلقا . والثالثة : أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه ، ولا يبرأ من كل عيب علمه حتى يعلم به المشتري .

فإن صححنا البيع والشرط فلا إشكال ، وإن أبطلنا الشرط فهل يبطل البيع أو يصح ، ويثبت الرد فيه ؟ وجهان ، فإذا أثبتنا الرد وأبطلنا الشرط فللبائع الرجوع بالتفاوت الذي نقص من ثمن السلعة بالشرط الذي لم يسلم له ; فإنه إنما باعها بذلك الثمن بناء على أن المشتري لا يردها عليه بعيب ، ولو علم أن المشتري يتمكن من ردها لم يبعها بذلك الثمن ; فله الرجوع بالتفاوت ، وهذا هو العدل وقياس أصول الشريعة ; فإن المشتري كما يرجع بالأرش عند فوات غرضه من سلامة المبيع فهكذا البائع يرجع بالتفاوت عند فوات غرضه من الشرط الذي أبطلناه عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية