الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر عود المؤيد إلى إمارة الأندلس وما كان منه

قد ذكرنا سبب خلعه وحبسه ، فلما كان هذه السنة أعيد إلى خلافته ، واسمه هشام بن الحاكم بن عبد الرحمن الناصر ، وكان عوده تاسع ذي الحجة ، وكان الحكم [ ص: 566 ] في دولته هذه إلى واضح العامري ، وأدخل أهل قرطبة إليه ، فوعدهم ومناهم ، وكتب إلى البربر الذين مع سليمان بن الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر ، ودعاهم إلى طاعته والوفاء ببيعته ، فلم يجيبوه إلى ذلك ، فأمر أجناده وأهل قرطبة بالحذر والاحتياط ، فأحبه الناس .

ثم نقل إليه أن نفرا من الأمويين بقرطبة قد كاتبوا سليمان ، وواعدوه ليكون بقرطبة في السابع والعشرين من ذي الحجة ليسلموا إليه البلد ، فأخذهم وحبسهم ، فلما كان الميعاد قدم البربر إلى قرطبة ، فركب الجند وأهل قرطبة ، وخرجوا إليهم مع المؤيد ، فعاد البربر وتبعتهم عساكره ، فلم يلحقوهم . وترددت الرسل بينهم فلم يتفقوا على شيء .

ثم إن سليمان والبربر راسلوا ملك الفرنج يستمدونه ، وبذلوا له تسليم حصون كان المنصور بن أبي عامر قد فتحها منهم ، فأرسل ملك الفرنج إلى المؤيد يعرفه الحال ، ويطلب منه تسليم هذه الحصون لئلا يمد سليمان بالعساكر . فاستشار أهل قرطبة في ذلك ، فأشاروا بتسليمها إليه خوفا من أن ينجدوا سليمان ، واستقر الصلح في المحرم سنة إحدى وأربعمائة . فلما أيس البربر من إنجاد الفرنج رحلوا ، فنزلوا قريبا من قرطبة في صفر سنة إحدى وأربعمائة ، وجعلت خيلهم تغير يمينا وشمالا ، وخربوا البلاد .

وعمل المؤيد وواضح العامري سورا وخندقا على قرطبة أمام السور الكبير ، ثم نزل سليمان قرطبة خمسة وأربعين يوما ، فلم يملكها ، فانتقل إلى الزهراء وحصرها ، وقاتل من بها ثلاثة أيام . ثم إن بعض الموكلين بحفظها سلم إليه الباب الذي هو موكل بحفظه ، فصعد البربر السور ، وقاتلوا من عليه حتى أزالوهم ، وملكوا البلد عنوة ، وقتل أكثر من به من الجند ، وصعد أهل الجبل ، واجتمع الناس بالجامع ، فأخذهم البربر وذبحوهم حتى النساء والصبيان ، وألقوا النار في الجامع والقصر والديار ، فاحترق أكثر ذلك ونهبت الأموال .

ثم إن واضحا كاتب سليمان يعرفه أنه يريد الانتقال عن قرطبة سرا ، ويشير عليه بمنازلتها بعد مسيره عنها ، ونمى الخبر إلى المؤيد ، فقبض عليه وقتله ، واشتد الأمر [ ص: 567 ] بقرطبة ، وعظم الخطب ، وقلت الأقوات ، وكثر الموت ، وكانت الأقوات عند البربر أقل منها بالبلد ، لأنهم كانوا قد خربوا البلاد ، وجلا أهل قرطبة ، وقتل المؤيد كل من مال إلى سليمان .

ثم إن البربر وسليمان لازموا الحصار والقتال لأهل قرطبة ، وضيقوا عليهم ، وفي مدة هذا الحصار ظهر بطليطلة عبيد الله بن محمد بن عبد الجبار ، وبايعه أهلها ، فسير إليهم المؤيد جيشا ، فحصروهم ، فعادوا إلى الطاعة ، وأخذ عبيد الله أسيرا ، وقتل في شعبان سنة إحدى وأربعمائة .

ثم إن أهل قرطبة قاتلوا في بعض الأيام البربر فقتل منهم خلق كثير ، وغرق في النهر مثلهم ، فرحلوا عنها ، وساروا إلى إشبيلية فحصروها ، فأرسل المؤيد إليها جيشا فحماها ومنع البربر عنها ، وراسل سليمان نائب المؤيد بسرقسطة وغيرها يدعوهم إليه ، فأجابوه وأطاعوه ، فسار البربر وسليمان عن إشبيلية إلى قلعة رباح فملكوها وغنموا ما فيها ، واتخذوها دارا ، ثم عادوا إلى قرطبة فحصروها ، وقد خرج كثير من أهلها وعساكرها من الجوع والخوف ، واشتد القتال عليها ، وملكها سليمان عنوة وقهرا ، وقتلوا من وجدوا في الطرق ، ونهبوا البلد وأحرقوه ، فلم تحص القتلى لكثرتهم .

ونزل البربر في الدور التي لم تحرق ، فنال أهل قرطبة من ذلك ما لم يسمع بمثله ، وأخرج المؤيد من القصر ، وحمل إلى سليمان ، ودخل سليمان قرطبة منتصف شوال سنة ثلاث وأربعمائة وبويع له بها .

ثم إن المؤيد جرى له مع سليمان أقاصيص طويلة ، ثم خرج إلى شرق الأندلس ( من عنده ) . وكان ممن قتل في هذا الحصر أبو الوليد بن الفرضي مظلوما رحمه الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية