الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

دور المرأة في خدمة الحديث (في القرون الثلاثة الأولى)

آمال قرداش بنت الحسين

طرق تحمل الحديث

لعله من الصعب حصر وتتبع جميع صور تعلم الحديث وتعليمه خلال القرون الثلاثة الأولى، لأن كل شيخ كانت لديه طريقته الخاصة في إيصال مروياته إلى التلاميذ، وكان الغرض هـو الاستيثاق من ضبط المروي وقت تحمله وأثناء أدائه، إضافة إلى أن هـذه القرون كانت العمدة فيها على الرواة، حيث كانوا أوعية متفرقة للعلم النبوي، الأمر الذي [ ص: 157 ] تغير بعد تدوين الحديث في المصنفات المختلفة (أي بعد القرن الثالث) ، حيث أصبحت العمدة على الكتب والأصول الصحيحة، وصارت الرواية في الحقيقة بقاء سلسلة الإسناد [1] .

وقد جمع العلماء صور تحمل الحديث عموما في ثمانية طرق [2] وهي كالآتي:

1- الطريقة الأولى: السماع : وهو أن يسمع الراوي من لفظ الشيخ، سواء كان من حفظه أو من كتابه، وقد يكون بشكل إملاء أو تحديث من غير إملاء [3] ، وهذه الطريقة أرفع الأقسام عند جماهير المحدثين [4] .

وبهذه الطريقة لم يكن يتجاوز التدريس بضعة أحاديث، وفي هـذا قال الزهري : من طلب العلم جملة، ذهب منه جملة. [5] .

ويكون أداء ما تحمل بالسماع بـ: (حدثنا) ، (أخبرنا) ، (أنبأنا) ، و (سمعت) ، و (قال لنا) ، و (ذكر لنا فلان) [6] .

2- الطريقة الثانية: القراءة على الشيخ: حفظا أو من كتاب، وهو ما يسمى بـ ( العرض ) ، أيضا عند الجمهور [7] ، والقول بصحتها [ ص: 158 ] ثابت عن كثير من الصحابة والتابعين وأئمة الحديث بعدهم كابن جريج ، والثوري وشعبة والبخاري ...، وغيرهم كثير، وقد عقد البخاري بابا في صحيحه في كتاب العلم، وهو (باب القراءة والعرض على المحدث) [8] ، وقال الحافظ ابن حجر : وقد انقرض الخلاف في كون القراءة على الشيخ لا تجزئ، وإنما كان يقوله بعض المتشددين من أهل العراق [9] .

ويكون أداء ما تحمل بهذه الطريقة : بـ (قرأت) أو قرئ على فلان، وأنا أسمع فأقر به) ، أو (حدثنا قراءة) [10] . وقد كانت هـذه الطريقة شائعة جدا عند المحدثين [11] .

3- الطريقة الثالـثة: الإجازة : وهي أن يأذن الشيخ لغيره بأن يروي عنه مرويـاته أو مؤلفاته، وكأنها تتضمن إخباره بما أذن له بروايته عنه [12] .

والإجازة أقسام:

أ- إجازة من معين لمعين في معين: بأن يقول: أجزتك أن تروي عني هـذا الكتاب، وهذه جائزة عند الجماهير [13] . [ ص: 159 ]

ب- إجازة لمعين في غير معين: مثل قوله: أجـزت لك أن تـروي ما أرويه، وهذا مما يجوزه الجمهور أيضا [14] .

جـ- إجازة لغير معين: مثل أن يقول: أجزت للمسلمين، وتسمى: (الإجازة العامة) وقد اعتبرها طائفة من الحفاظ والعلماء مثل: الخطيب البغدادي.

4- الطريقة الرابعة: المناولة: وهي أن يدفع الشيخ كتابه الذي رواه أو نسخة منه مصححة إلى رجل ويقول له: هـذا حديثي أو كتابي فاروه عني، أو نحو ذلك [15] .

والأصل فيها ما علقه البخاري في كتاب العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لأمير السرية كتابا، وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم [16] فاحتج به البخاري على صحة المناولة .

والذي عليه جمهور المحدثين قديما وحديثا، أنه لايجوز إطلاق (حدثنا) ولا (أخبرنا) ، بل مقيدا [17] .

5- الطريقـة الخامسـة: المكـاتبة : بـأن يكتـب إليـه بشيء من حديثه، فإن أذن له في روايته عنه فهو كالمناولة المقرونة بالإجازة [18] ، وإن [ ص: 160 ] لم تكن معها إجازة فهي أرجح من المناولة بالإجـازة أو بدونها [19] .

والراوي بالمكاتبة يقول: (حدثني) أو (أخبرني) ولكن يقيدهما بالمكاتبة، لأن إطـلاقهما يوهم السماع، فيكون غير صادق في روايته [20] .

6- الطريقة السادسة: الإعلام : وهو إعلام الشيخ أن هـذا الكتاب سماعه من فلان، من غير أن يأذن له في روايته عنه، وذهب كثير من المحدثين والفقهاء والأصوليين إلى جواز الرواية بالإعلام من غير إجازة، بل أجازوا الرواية به وإن منع الشيخ الرواية بذلك [21] .

7- الطريقة السابعة: الوصية : بأن يوصي بكتاب له كان يرويه لشخص، فقد ترخص بعض السلف في رواية الموصى له بذلك الكتاب عن الموصي، وشبهوا ذلك بالمناولة وبالإعلام بالرواية [22] .

8- الطريقة الثـامنة: الوجـادة : وصـورتها أن يجد حديـثا أو كتابا بخط شخص بإسناده، سواء لقيه أو سمع منه، أو لم يلقـه ولم يسمع منه [23] .

فإذا كانت هـذه طرق التحمل التي سجلها العلماء عبر النشاط التعليمي، فكما سبق أن ذكرنا أن القرون الثلاثة الأولى كان المهم عند [ ص: 161 ] العلماء أن تتناقل السنن من المحدث إلى تلاميـذه مع الدقة والإتقان ومن غير انقطاع في السند أو إعضال [24] . وعليه لم يكن التحمل بالطرق التي ذكرنا جار مجرى القوانين التي لا يحاد عنها في الرواية، لأن هـذه الطرق ما جمعت ودونت إلا بعد القرن الثالث بعد عملية استقراء وتتبع.

ومن خلال ملاحظة روايات النساء في القرون الثلاثة الأولى، أمكن إجمال أشكال التحمل والأداء فيما يلي، بعد تقسيم هـذه المدة إلى قسمين: عصر النبوة وما بعد عصرالنبوة:

تحمل الصحابيات للحديث في العصر النبوي

لقد سبق وأن ذكرنا في التمهيد للبحث، مدى حرص الصحابيات على العلم والتعلم وإقبالهن على مجالس العلم، وإقدامهن على السؤال والاستفسار، فكان منهن من لا يصرفها عن معرفة حقوقها وواجباتها ومتطلبات دينها صارف، فكان طلبها لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بدافع الطاعة والامتثال، ولم يكن سعيها للتحصيل خال من المقاصد والغايات، إذ كانت المرأة في عهده صلى الله عليه وسلم تعرف أين تجد ضالتها إذا طرأ عليها أمر غامض استوجب زيادة معرفة، فتعددت الكيفيات التي تحصل بها على العلم النبوي كما يلي:

أ- المجـالس الخـاصة والعـامـة للمسلمين: وقد رأينا كيف أن [ ص: 162 ] النبي صلى الله عليه وسلم خص يوما للنساء يعظهن ويعلمهن أحكام الدين، وكن يحضرن العبادات الجماعية في المساجد، فيسمعن منه صلى الله عليه وسلم مشافهة.

ب- قدوم النساء إلى البيت النبوي للسؤال، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم مربيا، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يغلق بابه في وجه أحد يريد أن يتعلم، والأمثلة على ذلك كثيرة مثل ذهاب زينب امرأة عبد الله بن مسعود إليه صلى الله عليه وسلم تسأله عن النفقة والصدقة على الزوج والأقربين [25] .. وما كان في سبيعة الأسلمية من الشهامة والفطنة، حيث ترددت فيما أفتاها به أبو السنابل من قوله : (لم تحلي) ، وكان زوجها توفي فوضعت حملها بعده بليال، فانطلقت بنفسها إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستوضحت منه الحكم في قضيتها [26] .. وكذا ما كان من امرأة رفاعة في المطلقة ثلاثا، وبيان حكم التحليل في الزواج [27] .

جـ- كانت المرأة تغتنم فرصة لقاء النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق لتسأله، وقد تعترضه أثناء أداء مناسكه وحجه، حتى وهو على راحلته تستفتيه فيفتيها، كما حصل للمرأة الخثعمية التي سألته عن الحج عن والدها العجوز [28] .. كذا ما كان من المرأة التي كانت مع قومها يريدون الحج، فلما التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرفوه، سارعت ورفعت إليه صبيها تسأله: إن كان له حج. [ ص: 163 ]

د- وقد تكون الصحابية شاهدة على حادث أو موقف وجه فيه النبي صلى الله عليه وسلم أناسا أو أقرهم على فعل أو بين لهم حكما جديدا، فتتحمله عنه، صلى الله عليه وسلم كما فعلت الربيع بنت معوذ عندما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم بيتها صبيحة عرسها، وقد مر بنا الحديث.

ه- وإذا كان ما تسأل فيه المرأة مما يستحى منه عادة، فإذا غلب عليها الحياء ذهبت إلى بيته صلى الله عليه وسلم ، كما فعلت الصحابية التي أرسلها زوجها تسأل عن القبلة للصائم.

و- كما كانت حجة الوداع التي اجتمع فيها جمع غفير من المؤمنين والمؤمنات من كافة أنحاء الجزيرة فرصة للتحـمل وتبليغ ما سمع.

فكما هـو ملاحظ أنه في كل صور التحمل في هـذا العهد لدى الصحابيات، تكون المشافهة هـي الطريقة الرائجة.. لأن في الصدر الأول كان الناس يعتمدون على حفظ صدورهم، ومن كان يعرف الكتابة والقراءة من الصحابة قليل، ومن الصحابيات أقل منه.

بتحمل الحديث وأداؤه فيما بعد عصر النبوة

بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أصبح أصحابه رضوان الله عليهم مقصد طلاب العلم، وخاصة من أكثر عنه الرواية. والمرأة في ذلك قدمت للجيل الجديد من التابعين ما تحملته من الكنوز قل أو كثر، وقد اتخذ التحمل والأداء أشكالا جديدة، إضافة إلى القديمة:

1- المشافهة (السماع) : فمعظم الروايات قد بلغت مشافهة، [ ص: 164 ] وقد رأينا في الكلام عن طبقات الراويات، كيف أن بعضهن كن من تلميذات بعض أمهات المؤمنين، مما يدل على أن تحملهن كان مشافهة، أي بالسماع من الصحابيات، وإن لم يكن من التلميذات المقيمات في المدينة، وكن ممن رحلن للحج أو غيره فسمعن الأحاديث أيضا مشافهة من أصحابها عند الدخول عليهم.

2- المكاتبة : وهذا اللون من التحمل والأداء كان نتيجة اتساع رقعة الدولة الإسلامية ودخول أجناس كثيرة في الإسلام مع حاجتهم إلى فتاوى وأحكام في الأمور المستجدة، مما لم يهتدوا إليه بأنفسهم، فكان الناس يعمدون إلى مكاتبة رءوس العلم ليزودوهم بما لديهم من العلم في قضاياهم، ولما كان أساس ما يفتون به كتاب الله أو ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا شك أن تكون هـذه الرسائل المبعوثة متضمنة لأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله أو تقريراته، وإن كانت هـذه المكاتبات لم يقصد بها التحديث ابتداء، وإنما كانت للفتوى، إلا أن هـذا لا يمنع من جعل مضامين الرسائل بعد ذلك مادة للتحديث لأن الإجازة متحققة فيها، وإن لم ينص على ذلك، (وإلا فما معنى أن يكتب الشيخ للتلميذ كتابه ويرسله إليه) [29] .

ولبيـان مسـاهمة المـرأة في هـذا اللـون من التحـمل والأداء، نـذكر " ما ترويه عائشة بنت طلحة حيث قالت: قلت لعائشة ، وأنا في حجرها، وكان الناس يأتوننا من كل مصر، فكان الشيوخ ينتابوني لمكاني منها، [ ص: 165 ] وكان الشباب يتأخوني فيهدون إلي ويكتبون إلي من الأمصار، فأقول لعائشة : هـذا كتاب فلان وهديته، فتقول لي عائشة: أي بنية، فأجيبيه وأثيبيه، فإن لم يكن عندك ثواب أعطيتك، قالت: فتعطيني " [30] .

هذا المثال، وإن وردت فيه المكاتبة العادية دون قصد التحديث، إلا أنه بإمكاننا القول: إن عائشة بنت طلحة، كانت من الرواة المعروفين بالعلم والفضل، ولا نشك أن تكون مكاتباتها تتضمن أحيانا أمورا علمية بعد وفاة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها .

وسوف نرى في مبحث دور المرأة في نقد الروايات، كيف كان الناس يكاتبون أم المؤمنين عائشة من كل الأقطار يسألونها عن مختلف القضايا، فكانت تجيبهم على ذلك مكاتبة أيضا بخط يدها أو تأمر من يكتب لها، وقد كان معاوية يستفتيها ولا يطمئن إلا لما يصله ردها.

كذا ما كـان من ( مكاتـبة عمرة بنت عـبد الرحـمن إلى الحسـين بن علي تعظم عليه ما يريد أن يصنع وتأمره بلزوم الجماعة، وتخبره أنه إنما يساق إلى مصرعه، وتقول: أشهد لحدثتني عائشة إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يقتل حسين بأرض بابل. ) [31] .

3- الوجادة : قد وجد هـذا النوع منذ عصر الصحابة والتابعين، فقد وجدوا صحفا لبعض الصحابة والتابعين وتناقلوها بالوجادة [32] . [ ص: 166 ]

ولعل هـذا اللون يلجأ إليه الراوي إذا لم يتسن له سماع ما وجد من الشيخ مع كونه لقيه وسمع منه، كما كان الحال بالنسبة لعبد الله بن أحمد بن حنبل ، فاستعماله لصيغة : (وجدت في كتاب أبي) ، أو (بخط أبي) كثيرة، وبالرجوع إلى مسند الإمام أحمد بن حنبل يتضح ذلك، ولم يستجز عبد الله أن يرويها -أي الأحاديث- عن أبيه دون صيغة الوجادة مع كونه راوية كتبه وابنه وتلميذه، وخط أبيه معروف لديه، وكتبه محفوظة عنده في خزائنه [33] .

وقد يلتجأ الراوي أيضا إلى استعمال صيغة الوجادة إذا لم يلتق بمن يروي عنه وجادة ولم يسمع منه، وقد رصدنا بعض النماذج من الراويات تروي الواحدة بالوجادة عن أحد أقاربها لوجود كتابه عندها، نذكر:

- سمانة بنت حمدان، وهي بنت بنت الوضاح بن حسان، تروي عن جدها بقولها: (وجدت في كتاب جدي الوضاح بن حسان...) ، الحديث [34] .

- فاطمة بنت عبد الرحمن الحرانية ، تروي بالوجادة بقولها: (وجدت في كتاب أبي...) الحديث. وفاطمة قد عاشت أواخر القرن الثالث وتوفيت بداية القرن الرابع [35] .

4- الإجازة : اعتمدت الإجازة بعد أن دونت الأحاديث في [ ص: 167 ] الكتب بالأسانيد الموثوقة، فاتخذت طريقة الإجازة تسهيلا وتيسيرا على الشيخ وتلاميذه، إذ من الصعوبة بمكان قراءة الكتب من أولها إلى آخرها على كل طالب، فكانت الإجازة عن إخبار على سبيل الإجمال، ولذلك لم يستحسن العلماء الإجازة إلا إذا كان المجاز له من أهل العلم [36] ، وأن تكون في شيء معين معروف. وعليه يكون وجود هـذا النوع في القرن الثالث خاصة لكون معظم الكتب الحديثية قد دونت.. وتشير المصادر إلى وجود نساء راويات عرفن بطلب العلم وتحملن بطريق الإجازة، نذكر منهن مثلا:

- فاطمة بنت محمد بن علي بن شريعة اللخمي ، أخت أبي محمد الباجي الإشبيلي، شاركت أخاها أبا محمد في بعض شيوخه، وأجازهما معا محمد بن فطيس الألبيري في جميع رواياته بخط يده

[37] .

- غدا بنت عبد الرحمن بن حمدون ، من أهل قرطبة، حدثت إجازة عن سعيد بن عثمان الأعناقي

[38] . [ ص: 168 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية