الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

دور المرأة في خدمة الحديث (في القرون الثلاثة الأولى)

آمال قرداش بنت الحسين

مروياتها رضي الله عنها

روت أم المؤمنين عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير الطيب، وحديثها منثور [ ص: 56 ] في كتب السنة [1] ، ولها فضل كبير في نقل السنة الفعلية وتعليمها الناس، كما تعتـبر حجرتها الشريفة المدرسة الأولى في الدنيا التي يؤخذ منها الحديث الشريف، لأنها قامت بإبلاغ أمانة الدين والعلم.

- مرتبة أم المؤمنين بين المكثرين في الرواية

نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم جميعا يتفاوتون في رواية الحديث النبوي قلة وكثرة، فبينما نجد أحدهم روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآلاف من الأحاديث، نجد الآخر وقد روى حديثا واحدا، أو لم يرو شيئا، وهذا التفاوت راجع إلى أسباب عدة منها [2] :

- تفاوت درجات الحفظ عند الصحابة.

- تفاوتهم في مقدار ملازمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم .

- تحفظ بعضهم من إكثار الرواية، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

- انصراف بعضهم إلى العبادة، أكثر من انصرافهم إلى التعلم، وانشغال بعضهم بأمور معاشهم، والجهاد والإمارة والفتوح.

- قصر أعمار بعضهم بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم ، وطول أعمار بعضهم وتوليهم مقاليد الرياسة في العلم والرواية لاحتياج الناس إلى علمهم. [ ص: 57 ]

ولا يعد الراوي مكثرا إلا إذا روى ألف حديث وأكثر [3] ، لهذا لم يعد ابن مسعود من المكثرين لأن مروياته لم تبلغ الألف [4] ، أما الذين بلغت مروياتهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ألف فسبعة من أجلة الصحابة، نظمهم بعضهم في:

سبع من الصحب فوق الألف قد نقلوا من الحديث عن المختـار خيـر مضر     أبوهريرة، سعـد، جـابر، أنـس،
صديقة، وابن عباس، كذا ابن عمر

نورد هـنا عدد مرويات كل واحد مرتبين حسب الكثرة [5] :

1- أبو هـريرة: روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثا (5374) .

2- عبد الله بن عمر: ألفان وستمائة وثلاثون حديثا (2630) . [ ص: 58 ]

3- أنس بن مالك: ألفان ومائتان وستة وثمانون حديثا (2286) .

4- عائشة: ألفان ومائتان وعشرة أحاديث (2210) .

5- عبد الله بن عباس: ألف وستمائة وستون حديثا (1660) .

6- جابر بن عبد الله: ألف وخمسمائة وأربعون حديثا (1540) .

7- أبو سعيد الخدري: ألف ومائة وسبعون حديثا (1170) .

فإذا كانت عائشة رضي الله عنها تروي (2210) [6] حديثا، فهي تحتل الدرجة الرابعة باعتبار كثرة الرواية عامة [7] ، أما باعتبار الكثرة في الكتب الستة فتحتل الدرجة الثانية بعد أبي هـريرة مبـاشرة، إذ لـه في الكتب الستة ثلاثة آلاف وثلاثمائة وسبعون حديثا (3370) ، وروي لعائشة في الكتب الستة، ألفا حديث وواحد وثمانون حديثا (2081) [8] .

واتفق لها البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثا (174) .

انفرد البخاري بأربعة وخمسين حديثا (54) .

انفرد مسلم بتسعة وستين حديثا (69) [9] . [ ص: 59 ]

وبهذا يصبح مجموع حديثها عند الشيخين مجتمعا ومنفردا (297) مائتين وسبعة وتسعين (44) .

- محتوى مرويات عائشة رضي الله عنها بالمكرر

بعد أن عرفنا مرويات عائشة رضي الله عنها ، عددها ومرتبتها من حيث الكثرة، نرى أنه من المهم الاطلاع على موضوعات هـذا الكم من المرويات، وتوزعها على الكتب والأبواب في كتـب الحـديث، وهنـا لا ندعي الحصر والتتبع، ولكن الغرض منه هـو إعطاء نظرة موجزة وغير مخلة عن محتوى هـذه الروايات، إذ هـي المعيار الذي من خلاله ينظر إلى روايات النساء، وحول أي المواضيع تركزت.

والمتفحص لكتب الحديث كالسنن والجوامع، كالكتب الستة مثلا، والملقي نظرة على مختلف الكتب والأبواب فيها، لا شك يلفت نظره تردد اسم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كراوية عن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة في أبواب الأحكام بمختلف فروعها، الأمر الذي أكده صاحب (ما لا يسع المحدث جهله) إذ قال: اشتمل كتابا البخاري ومسلم مثلا، على ألف حديث ومائتي حديث من الأحكام، وروت عائشة من جملة هـذه الأحاديث مائتين ونيفا وتسعين حديثا لم يخرج عن الأحكام منها إلا يسير. [ ص: 60 ]

وهذا الحكم لا ينطبق على كتـابي البخاري ومسلم فقط، إنما هـو صحيح في جميع مرويات عائشة في مختلف كتب السنة على العموم.

فمروياتها طرقت معظم أبواب الأحكام إلا قليلا منها، وإن غلب على مروياتها طابع الأفعال على الأقوال، ولا سيما ما يتعلق بأعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيتية والمعيشية. كما تميزت عائشة في مروياتها بنقل أحكام النساء الخاصة بهن، ولم يضارعها في ذلك أحد.

وإذا فصلنا أكثر قلنا: إن مروياتها تناولت أحاديث تتعلق بأبواب الإيمان والوحي والعلم والقراءة والتفسير، كما احتوت على أحاديث تتعلق بآداب قضاء الحاجة، وبالوضوء والغسل في يوم الجمعة، وفي الجنابة، وهي كثيرة، وبمسائل في الحيض والاستحاضة ، وما يتعلق بجواز مباشرة الرجل الحائض، وقد برعت وفاقت غيرها في هـذا المجال.

وكذا أحاديث في التيمم، تتعلق بسبب نـزول آية التيـمم -وهي صاحبة القصة- وكذا حوت مروياتها روايات كثيرة جدا في أبواب الصلاة تتعلق بالأوقات المنهي عن الصلاة فيها، وبكيفية فرضية الصلوات، وأحاديث في الآذان، وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤذنين، وأحاديث تتعلق بأحكام الصلاة، وما ورد من الأذكار والأدعية خلالها وفي دبرها، وبالإمامة وفضل الجماعة، وأحاديث في المساجد وآدابها وفضلها، وحضور النساء المساجد، وأحاديث بخصوص صلاة العيدين [ ص: 61 ] والخوف والكسوف، وما يتعلق بالسنن الراتبة والنوافل وقيام الليل، وصلاة التراويح وما ورد في الوتر، وصلاة الجنازة وما يتعلق بها من ثياب الكفن، وأحاديث في إثبات عذاب القبر والتحذير من اتخاذ القبور مساجد، وغير ذلك مما يتعلق بالقبور وأهلها.

كما تناولت مروياتها أحاديث كثيرة في الصدقة وأجرها، وإنفاق المرأة من مال زوجها بغير إذنه، وكذا اشتملت على أحاديث كثيرة في الصوم تتعلق بمسائل شتى في تحري هـلال شعبان لمعرفة هـلال رمضان وفي السحور، وفي الصائم الذي يصبح وهو جنب، وتقبيل الصائم، وأحاديث في صيام التطوع وأخرى في الاعتكاف، وفي تحري ليلة القدر، وفي قضاء الصيام، وفي النهي عن صوم الوصال، وأيضا روايات كثيرة جدا في الحج تتعلق بالتلبية وأنواع الحج الثلاثة، واستعمال الطيب قبل الدخول في الإحرام وقبل طواف الإفاضة وبعد التحلل الأصغر، وبفتل القـلائد للهـدي، وبعدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمرة عائشة نفسها من التنعيم ونزول المحصب، وما يتعلق ببـناء الكعـبة وفضـلها. وكذا روايات في الأضاحي وفي الذبائح وبعض ما يتعلق بهما نحو العقيقة ، كما أن لها مرويات في البيوع وما يتعلق بها، وفي العتق والمكاتبة . وتشتمل على أحاديث في باب اللباس والأطعمة والأشربة، والطب فيما يتعلق بعلاج المريض والدواء وبالرقية والدعاء، وبأحاديث في النذور والشهادات، وأيضا على أحاديث تتعلق بالجهاد والمغازي والإمارة. [ ص: 62 ]

كما تتضمن مروياتها مجموعة من الأحاديث تدور حول النكاح وحسن المعاشرة بين الزوجين، والطلاق وما يتعلق به، وعلى روايات في أبواب الحدود، وأبواب المناقب والسير، وعلى جملة كبيرة من الأحاديث في الآداب المعيشية وحسن المعاشرة وفي البر والصلة، ولعل هـذا الجانب من الجوانب البارزة في مروياتها، كما روت أحاديث في الزهد والرقاق وأحاديث في الفتن، وأشراط الساعة، والقدر والخلقة، وما يتعلق بالقيامة، وأحاديث في الاستغفار والدعاء والتوبة، وأحاديث في الفرائض.

وقد عمدنا إلى هـذا العرض لتتجلى لنا فائدة التنوع الذي اتسمت به مرويات عائشة رضي الله عنها ، خاصة في مجال الأحكام وفائدته في حياة الناس، فهي أساسا مرويات تنقل لنا الفعل لبيان السنة بغية الاقتداء.. وإضافة إلى تميز مروياتها بالعملية، فهي أيضا روايات دقيقة تنقل لنا أدق التفاصيل عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله المعيشية والعبادية.

مكثرو الرواية عن عائشة

نبغ كثير من تلاميذ عائشة وأصبحوا بدورهم مثابة لطلاب العلم ورحلة يضرب الناس إليهم أكباد الإبل ابتغاء ما ورثوه من علم عائشة وفقهها وأدبها وسائر الفنون التي برعت فيها، إذ كان لعلمها ثقله وأهميته، ولمن حازه سبيلا للثناء الحسن والفخار والإمامة في الدين، يدل عليه طالب العلم المجتهد الحريص على التحصيل، ويوصى بملازمته وشد الرحال إليه.. فتلاميذها أوعية حافظة لعلمها، نذكر هـنا [ ص: 63 ] ستة هـم أكثر الرواة المكثرين عنها رضي الله عنها :

1- عروة بن الزبيـر [10] : ابن العـوام بن خويـلد الأسـدي، أبو عبد الله المدني، ثقة فقيه، مشهور من الثانية مات سنة 94هـ، على الصحيح، مولده في أوائل خلافة عمر الفاروق، وهو أكثر الناس رواية عن خالته عائشة، حتى روى عنها وحده (1050) حديثا من مجـموع أحاديثـها البـالـغ عـددها (1999) ، وهو نصف مسندها [11] قال عنه الزهري : كان عروة بحرا لا ينزف ولا تكدره الدلاء [12] ، وقد كان شديـد المـلازمة لخالتـه عائشة ، كثير السؤال، ممـا كـان يثير غبطة طـلاب العـلم من كثرة دخوله عليها فأصبح مرجعا لعلمها.

2- القـاسـم بن محمد بن أبي بكـر الصديـق [13] التـيـمي أبو عبد الرحمن: ثقة، أحد الفقهاء بالمدينة، ومن كبار الثالثة، مات سنة (106هـ) على الصحيح، قتل أبوه محمد سنة (38هـ) في مصر لما قدم أميرا عليها من قبل علي بن أبي طالب، فبقي القاسم يتيما في [ ص: 64 ] حجر عمته عائشة رضي الله عنها .

وكان يلازمـها مع ما عرف به من النـباهة، وهو حـديث السن مما يسر له استيعاب ما تسمعه آذانه وإدراك ما يحفظه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو فتاوى من عائشة وغيرها، وله (137) حديثا يرويها عنها في الكتب الستة فقط.

3- الأسود بن يزيد النخعي [14] : الكوفي أبو عمرو، الثقة، العابد، من الثانية.

وقد روى الأسود عن عائشة (117) حديثا في الكتب الستة فقط.

4- عمرة بنت عبد الرحمن [15] : بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، وكانت في حجر عائشة، قال ابن معين: ثقة حجة، وقال العجلي: مدنية تابعية ثقة، وذكر ابن المدني عمرة ففخم أمرها وقال: (عمرة أحد الثقات الأثبات فيها) ، وقال ابن حبان: (كانت من أعلم الناس بحديث عائشة) ، وقال ابن سعد: (كانت عالمة) .. وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر ابن حزم أن يكتب له أحاديث عمرة.. كما شهد لها الزهري بقـوله: فأتيـتها -أي عمرة- فوجدتها بحرا لا ينزف . ولها (72) حديثا ترويها عن عائشة في الكتب الستة. [ ص: 65 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية