الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
رأي شيخ الإسلام في التعارض:

لقد وجدت شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله، يدرس قضية التعارض بين القضايا العقلية والنقلية، ثم يضع ميزانا لذلك [1] إذ يرى أن الحقائق منها ما هـو شرعي (نقلي ) ، ومنها ما هـو عقلي، وكل منهما فيه القطعي والظني، وهناك ثلاث قواعد تضبط ذلك:

1- إن القطعيين لا يتعارضان.

2- إذا تعارض قطعي وظني يقدم القطعي، أيا كان مصدره.

3- إذا تعارض ظنيان فعلى العـقل أن يسعـى للمفاضـلة بينهـما، وأن يأخذ بالأرجح.. منهج متوازن لا شطط فيه، أعتقد أنه مقبول لدى كل منصف.

ختـامـا لقد وجدت الرئيس البوسني (علي عـزت بكوفـتش ) يعـمل مقارنة لطيفة بين الحضارة والثقافة، من حيث الأهداف والوظائف فيرى [2] : [ ص: 98 ]

أن الثقافة تحتل تأثير الدين على الإنسان.. أما الحضارة فتمثل تأثير الذكاء على الطبيعة.. الثقافة تعني الفن، وأما الحضارة فتعني صناعة الأشياء.. الثقافة صنع مستمر للذات، والحضارة تغيير مستمر للعالم.. الثقافة استمرار للتقدم الإنساني، والحضارة استمرار للتقدم التقني.

الثقافة تقدم مستمر للذات، والحضارة اضطرار للاعتماد على المادة، وفرض لها على الإنسان.. الثقافة تستهدف التقليل من حاجات الإنسان، والتوسع في آفاق الحرية.. حامل الثقافة هـو الإنسان، وحامل الحضارة هـو المجتمع.

الثقافة تحتل القوة الذاتية، والحضارة تمثل قوة على الطبيعة.

الدين والقيم والفكر والآداب، من مكونات الثقافة. والعلم والتكنولوجيا والمدن والدول كلها تنتمي للحضارة..

وأخيرا: فالحضارة ليست خيرا بنفسها ولا شرا، لذا فالمتحضر يمكن أن يكون مستعمرا ومستعبدا لأخيه، سارقا لأقوات الشعوب الفقيرة، محطما لها، مشعلا للحروب، مستغلا تقدمه في تحطيم الآخرين، ومنعهم من التقدم، كي يظلوا سوقا له ولبضائعه.

فالحضارة ومثلها التقدم، وصف وليس بحكم، فالمتحضر يمكن أن يكون ملكا رحيما، كما يمكن أن يكون شيطانا رجيما، وكذلك [ ص: 99 ] التقدم، يمكن أن يكون باتجاه الخير والسلام، ومعاونة الشعوب الفقيرة، والأخذ بيدها، كما يمكن أن يكون وسيلة استعلاء ونهب وسلب، وإشعال للحروب، وفرض لتجارة مثل تجارة الأفيون.

إن أوروبـا النـاهضـة المتقـدمة استعمرت كـافـة القـارات، وخاضت من أجل ذلك في أنهار من الدم، وفعلت في المستعمرات ما يفعله الذئب في فريسته، وكان سلاحها تقدمها وملكها أسباب القوة وتخلف الآخرين.

فليس التحـضـر أو التـقـدم بنـفسه خيـرا أو شـرا، ولكن بما يحمل، وبما يحسن أو يسيء من تصرف.

والمتقدم والمتحضر -اليوم- هـو من يلوث البيئة، بعشرات الأضعاف مما يفعله المتخلف.. فالمتقدم ليس ملكا، والمتخلف ليس شيطانا. [ ص: 100 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية