الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

نحن والحضارة والشهود [الجزء الأول]

الدكتور / نعمان عبد الرزاق السامرائي

ثانيا: حركة النكوص

المؤمنون بهذا التوجه يشعرون بغلبة الشرور، وتدهور القيم الأخلاقية، وكذلك الجمالية، وفوق ذلك وبعده، الحروب المدمرة، وضياع السلام والاستقرار، وشيوع الفساد والإرهاب، والتكالب على المادة، ويساهم في هـذا الاتجاه علماء الدين، ويشاركهم بعض العلماء، الذين يتذمرون من عجز الإنسانية عن التقدم الحقيقي، فهذا (جيته )

[ ص: 153 ] الألماني يقول [1] : لقد صار الإنسان أكثر ذكاء ووعيا، ولكنه لم يصبح أكثر سعادة، أو أنبل خلقا) . وهي حقيقة موجعة مؤلمة.

أما (توينبي ) فقد تصور أن العالم عقد صفقة مقايضة غريبة، فقال [2] : (لقد أغرت فنون الصناعة ضحايا، وجعلتهم يسلمون قياد أنفسهم، وذلك ببيعها المصابيح الجديدة لهم، مقابل المصابيح القديمة، لقد أغوتهم فباعوها أرواحهم، وأخذوا بدلا عنها (السينما والراديو) ، وكانت نتيجة هـذا الدمار الحضاري، الذي سببته تلك الصفقة، اقفرارا روحيا، وصفه أفلاطون بأنه (مجتمع خنازير) . هـذه الصفقة لم يسلم منها بلد، كما يبدو.

أما (أدوارد كربنتر ) فيعتبر (المدنية ) مرض جميع الأجناس [3] . وقد كان الفيلسوف (برنارد شو ) يسخر من المدنية وتقدمها، بل يعلن أن البشرية ستعود إلى وثنية وبدائية يوما ما، ولا يتوقع أن تحقق الإنسانية تقدما أكثر مما عرفت [4] .

إن فكرة (التقدم ) لدى أصحاب (النكوص ) ، تبدو كوهم كاذب، وهم يستعملون مصطلحات (مبهمة ) مثل سيطرة العقل، وحرية الشعوب، والسيطرة على الطبيعة، والسلام الدائم، وهم يتصورون أن [ ص: 154 ] البشرية تسير نحو غاية معلومة، ولم يكن ذلك عن طريق البرهان العلمي، ولكن عن طريق الأماني، ومن هـنا راحوا يخترعون المصطلحات، وكأنها شيء حقيقي موجود، ولها كيان في الخارج [5] .

ولعل خير من يعبر عن هـذا الاتجاه (ألبرت شفيتز ) ، فهو يقول [6] :

الخاصية المروعة لحضارتنا أن تقدمها المادي أكبر بكثير جدا من تقدمها الروحي، وقد اختل توازنها، فجعلت اكتشافات قوى الطبيعة تحت تصرفنا، محدثة ثورة في العلاقات بين الأفراد والجماعات، وبين الدول.. زادت معارفنا، فازدادت قوتنا، وصارت أحوالنا المعيشية أفضل، ولكن ممارستنا للتقدم والقوة جعلتنا نتصور الحضارة تصورا ناقصا معيبا، فنحن نغالي في تقدير الإنجازات المادية، ولا نقدر العنصر الروحي حق قدره.

إن الحضارة التي تنمو ماديا، ولا يواكب ذلك نمو متكافئ روحيا، تكون كسفينة اختلت قيادتها، فزادت سرعتها، وأوشكت على كارثة. إن جوهر الحضارة لا يتحدد بإنجازاتها المادية فقط، بل باحتفاظ الأفراد بالمثل العليا لكمال الإنسان، وتحسين أحواله كلها، فإذا عمل الأفراد كقوى روحية مؤثرة على ذواتها، عندئذ يمكن حل المشاكل، والوصول إلى تقدم جدير بالتقدير من كل ناحية.

إن مصير الحضارة يتوقف على كون (الفكر ) يسيطر على الأحداث [ ص: 155 ] أو لا يسيطر.. والقدرة في أسباب الحياة بين الأفراد والشعوب، وهي تساير موكب التقدم في الماديات، تقتضي مطالب أسمى عند الجماعة المتحضرة، في اتجاه حضارة رفيعة. إن زيادة سرعة السفينة تتطلب -فيما تتطلب- زيادة المتانة في جهاز القيادة والتوجيه.

إن الإنجازات المادية للحضارة تجعل الناس غير أحرار، ففلاح الأمس صار مجرد أجير في مصنع، والعمال اليدويون والتجار المستقلون صاروا مجرد مستخدمين، وهكذا يفقدون الحرية، التي كان يتمتع بها الإنسان، الذي يملك منزله، ويتصل مباشرة بالأرض.

إن التقدم الخارجي للحضارة، يوصل إلى هـذه النتيجة: إن الأفراد رغم حصولهم على مزايا، يضارون من نواحي مادية وروحية في طاقاتهم، فالإنجازات المادية لا تصبح حضارة، إلا بمقدار ما تستطيع عقلية الشعوب المتمدنة أن توجهها وجهة (كمال الفرد والجماعة ) .

لقد تزعزع تركيب العالم والحياة عندنا، فلم يعد الرجل العصري يشعر بدافع قوي للتفكير في المثل العليا للتقدم، بل قد كيف نفسه، إلى حد بعيد، مع النزعة الواقعية.

إنه أكثر استسلاما مما يعترف، لكنه يتشاءم، ولم يعد يؤمن بأن التقدم الروحي والأخلاقي هـو العنصر الجوهري في الحضارة، وهذا سببه نظرتنا الكونية منذ القرن التاسع عشر [7] . [ ص: 156 ]

وبودي أن أضيف ملاحظة ذكية للناقد البريطاني (كولن ولسون ) [8] (فهو يرى أن حضارة اليوم فيها (صخب شديد) ، فلا تدع مجالا للدعة والتأمل، وهكذا يبدأ الإنسـان بفقدان السكينة الداخلية، كما يفقد الهدف الجيد، الذي يجعله أكثر وأكبر من مجرد (خنزير) يحمل كفاءة ) ..

وأحسب أن وجود الصخب وفقدان السكينة مما لا جدال فيه.

وأختم بقول الشرقاوي [9] : (إن الباحث المنصف لا يملك القول بتحديد مسـار معـين للحضـارات، تقدما صاعدا، أو نكوصا هـابطا، إذ إن كل حضارة يعرض لها هـذا وذاك، فلا يدل ماضيها على مستقبلها، ولا تبشر سيطرتها العقلية على الطبيعة، ضرورة بتقدمها الشامل، في كل حال ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية