الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

نحن والحضارة والشهود [الجزء الأول]

الدكتور / نعمان عبد الرزاق السامرائي

خامسا: الانقطاع التاريخي

يتحدث البعض عن الانقطاع التاريخي، ويعني ما يصيب حركة التحضر من انقطاع، وإلا فإن التاريخ لا ينقطع، حتى تقوم الساعة.. إن نهر الحياة جار، وسيبقى حتى ينتهي هـذا الكون.

وقد وجدت د. رفيق حبيب في كتابه القيم (تفكيك الديموقراطية ) يضع عنوانا عاما: (الحداثة.. موت أمة ) ، ثم يضع [ ص: 166 ] عنوانا أصغر: (التاريخ لا ينقطع ) ، يقول فيه [1] : (إن مقـولـة الانقـطاع التاريـخي، ليسـت مقولة مادية؛ لأن التاريخ لا ينقطع، فهو فعل مستمر دائم، يتحرك إلى الأمام ولكننا نصفه بصفات رمزية، فنقول: إنه انقطع، أو إنه يعود إلى الوراء، أو إنه ساكن لا يتحرك ولا يتقدم، وكلها أوصاف لحالة الأمة، وموقفها الحضاري، وليست وصفا للتاريخ، باعتباره (التسجيل الزمني لحياة الأمم) .

فالانقطاع إذن ليس تاريخيا في جوهره بل هـو حضاري، فحركة الحضارة هـي التي أصابها الانقطاع، ويعني ذلك أن المنظومة الحاكمة للحضارة، وجملة المبادئ والقيم الأساسية فيها، قد أصابها الانقطاع فلم تعد سائدة ومؤثرة ومسيطرة، بل تراجعت، وظهر بدلا منها منظومة أخرى قدر لها أن تحوز قدرا هـاما من السيادة والسيطرة على مصير الأمة.

ولكن هـذا التصور يحتاج لأبعاد أخرى تجعله واقعيا وتاريخيا، فليس صحيحا أن الشعوب تعيش في ظل قيم يمكن أن نضعها أو نخرجها أو نغيرها، فالوقائع العلمية تؤكد أن تركيب الأمم أكثر تعقيدا من أي فعل مقصود.

ولذلك فإن ما يحدث في أي أمة يتبع قوانين وسننا، تحدد الممكن [ ص: 167 ] والمستحـيل، فـإذا كانت قيمنا الحضرية قد انقـطعت وحـلت محلها قيم أخرى، فكيف حدث هـذا، وما معناه الحقيقي، في التركيبة الاجتماعية؟!

إن لكل أمة ملامحها الخاصة، التي تشكلت عبر قرون طويلة، وهي بوصفها المميز للأمة، تمثل إفراز الأمة المحقق لتقدمها، وكذلك المحدث لحالة الرضا الداخلي، والقناعة الجمعية. وعبر تاريخ أي أمة يمكن أن نلحظ ما يميزها، وكوامنها الداخلية، وميولها الفطرية، واختياراتها الجمعية، وتفضيلاتها الطبيعية، وكلها تمثل في النهاية الأمة نفسها.

أي أن ملامحها وخصائصها هـي ما شاع وساد تلقائيا، محققا الاختيار الحر الملائم، الذي تميل له الأمة، فيحقق سعادتها.

ملامح الأمة -بهذا المعنى- هـي تلك القسمات البارزة والواضحة والشائعة، فليس صحيحا أن الأمة -أي أمة- هـي سديم متجانس، إلى حد التطابق، ليس فقط بين أفرادها، بل أيضا بين جماعاتها. وملامح أي أمة، هـناك السائد، وهو ما شاع واكتسب عمقا واستمرارا، وهناك غير الشائع والنادر، وغير المتكرر، والذي يتميز بأنه غير أصيل، وهناك ملامح هـامشية ليس لها نفس الوجود، سواء في قوتها أو انتشارها، وهذه لا تعبر عن الميل الفطري التلقائي للأمة، بل هـي بمثابة الاستثناء الذي يثبت القاعدة، وهي كل ما ظهر دون أن يحوز إقبالا أو إجماعا [ ص: 168 ] من الأمة، وهذه هـي السمات التي لم تحقق نجاحا في الأمة، ولم تحقق الأمة بها أي ازدهار أو تقدم... )

بعد ذلك يتحدث د. حبيب عن السمات السائدة والمتنحية.. فالسائدة هـي الشائعة حتما، أما المتنحية فهي غير الشائعة، فما شاع في الأمة يصبح سائدا، ويتنحى ما لم يشع.

(والأمة في ازدهارها تشحذ قيمها ومبادئها وعوامل نهضتها وتقدمها وازدهارها حضاريا، أي أنها حققت ما تريده وتفضله وتميل إليه، لذلك فالازدهار يرتبط بالقيم السائدة والأفكار الغالبة، والمقدسات محل اعتراف الجميع، بذلك يرتبط الازدهار -في فهمنا- بالملامح السائدة للأمة، محققا بذلك التواصل مع الماضي بثوابته وملامحه، ومحققا أيضا للتطور التاريخي، المعبر عن كيان الأمة وصعودها، وبهذا المعنى يرتبط التقدم بحالة تحقق قيم الأمة في الواقع المعاش، فتصبح هـذه القيم هـي نظام الحياة بجوانبه السياسية والأهلية والقانونية والأخلاقية... ) [2] .

لكن الأمة قد تمر بحالة تدهور، فهنا تفقد القيم قدرتها الوظيفية، وتصاب بعطب وظيفي، فيختل تماسك الأمة، وتضعف قدرتها على الصمود أو تنهار، تضعف عن مواجهة التحديات داخليا وخارجيا، [ ص: 169 ] وعندها يرتبط وجود الأمة باستمرار السيطرة السياسية والعسكرية.

وبتدهور حـالة الأمـة تصير غير راضيـة عن نفسها ولا عن ثقافتها أو لغتها أو آدابها، وهنا يحصل صدام بين الأمة وقيمها، وكأن الأمة أصبحت عدوا لنفسها، أما القيم الأصلية فتضـعف، وأما القيم المتنحية فيصبح ظهورها أقوى، وهنا تزداد الأمة ضعفا، ويباشر بتوظيف القيم الأصلية توظيفا سلبيا، وربما يجري ارتكاب الأخطاء والمفاسد في حق الأمة، باسم الأمة، وقد يفرض عليها حكما ظالما يفسد حياتها ويسممها.

والانقطاع التاريخي يكون هـنا بمعنى دورة طبيعية، حيث يفسد النظام الإيجابي للأمة، ويتم تنحيته لمصلحة نظام هـامشي تفرض سلطته اغتصابا، وهنا يكون الانقطاع عبارة عن انقطاع سيادة قيم الأمة عن الأمة ومصيرها، وتقوم عليه أقلية تنتمي لهذا النمط الهامشي، وتفرض سيطرتها على الأغلبية، وعلى نمط الحياة وقيمها، وشيئا فشيئا تفقد الشرعية، وتسوء الحالة يوما بعد يوم.

حـاولت جهد الإمكان التلخيص مـع المحافـظة على المعلومـة، وأنصـح بقراءة ودراسة (تفكيك الديموقراطية ) . [ ص: 170 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية