الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

نحن والحضارة والشهود [الجزء الأول]

الدكتور / نعمان عبد الرزاق السامرائي

ثالثا: دورات التحضر

هناك من يعتقد أن الحضارة لها دورة، بعضهم مثل ابن خلدون يتصورها مغلقة، وغيره يراها مفتوحة.. البعض يتصورها كطالع الجبل، بينما يرى آخرون أنها أشبه ما تكون بعجلة تدور حول محور ثابت، بينما يتصورها آخرون أشبه ما تكون بعملية نسج القماش والسجاد.. ولأن كل صورة لها من يؤمن بها، لذا سأستعرض بعض [ ص: 157 ] هذه الرموز، والطريقة التي يرون بها حركة التحضر. أبدأ بابن خلدون ، وفيكو ، واشبنجلر ، وتوينبي ، وأختم بمالك بن نبي .

1- عبد الرحمن بن خلدون:

سأقتصر هـنا على رأيه في دورة الحضارة أو التحضر فقط، ثم أعود لدراسته فيما بعد.

يرى ابن خلدون أن دورة الحضارة تبتدئ بالبداوة، يعقب ذلك التحضر ثم الترف فالتدهور [1] .. وهو يرى أن البداوة تتسم بالخشونة، وتظهر في أهلها الشجاعة والنجدة والبسالة، كما يظهر فيهم الترابط والعصبية، بعد ذلك يأتي دور التحضر والترقي، حتى يسقط الناس في الترف الذي يقود إلى التدهور والسقوط.

ثم نقل الفكرة إلى رئاسة الدولة، فجعلها في أربعة أجيال: باني الدولة، ثم ابنه المقلد لأبيه، ثم الثالث الذي يكون مقتفيا ومقلدا لمن تقدمه، ثم الرابع المقصر عنهم والمضيع لصفاتهم، ثم تسقط الدولة.

كما حاول أن يرسم ذلك في القبائل والإمارات، وكافة أهل العصبيات [2] . ويعتقد ابن خلدون بأن الحضارة هـي غاية العمران، وهي من جهة ثانية نهايته، وكل حضارة تصل إلى هـذ الحلقة، فإنها لا تلبث أن تبدأ دورة جديدة، لتنتهي بالبداوة، وهكذا. [ ص: 158 ]

2- فيكو [3] :

عالم اجتماع وتاريخ عاش في إيطاليا في أواخر القرن السابع عشر.. يعتقد (فيكو ) أن المجتمعات البشرية تمر عادة بمراحل معينة من (النمو والتطور والفناء ) ، فالناس ينتقلون عادة من البربرية إلى المدنية بفضل (العناية الإلهية ) ، التي تشمل الوجود برعايتها.. والحضارة تقوم على نوع من التناسق بين مكوناتها، فإذا ساد اتجاه فني معين مثلا، أو مذهب ديني في مجتمع، فإنه تسود معه أنماط معينة من النظم السياسية والاقتصادية والتشريعية وغيرها.

كما يرى أن دورات التحضر يفضي بعضها إلى بعض، ثم تعود، وإن كان التاريخ لا يعيد نفسه؛ لأنه ليس للتاريخ (عجلة ) تدور حول نفسها، لذا لا يتمكن مفسر التاريخ من التنبؤ بالمستقبل. بل الحركة تكون بشكل (لولبي ) ، صاعدة متجددة، تشبه حركة (صاعد الجبل ) ، الذي يدور حوله، ثم يرتفع، حتى يصل إلى قمة الجبل، فكل دورة له تعلو سابقتها، كما تزداد اتساعا وشمولا.

وهكذا تمر المجتمعات بمراحل من التطور والنمو، لتنتهي بالبربرية، ثم لتبدأ من جديد دورة جديدة، أعلى من سابقتها، لتنتهي بالانحلال، وهكذا تتشابك حلقات الحركة، في صعود دائم.

وواضح أن (فيكو ) يؤمن بالتقدم والصعود، لكنه لا يتصوره [ ص: 159 ] مستقيما -كما يراه غيره- وفيكو يرى أن حركة التاريخ مرت بثلاث مراحل متميزة:

أ- مرحلة اللاهوت.

ب- مرحلة البطولة.

جـ- مرحلة الإنسانية.

والمرحلة التالية تكون أعلى من سابقتها، وهو يفيض في شرح هـذه المراحل.. وواضح أن هـذه المراحل ليست متعاقبة، بل قد تكون متداخلة، وقائمة في المجتمع الواحد.

ويشير أكثر من ناقد إلى تأثر (فيكو ) بالتوراة إلى حد كبير.

3- أزولد اشبنجلر :

صاحب كتاب (تدهور الحضارة ) ، وهو من المؤمنين بدورة الحضارة، مرة يشبهها بالإنسان في نموه حتى وفاته، ومرة يشبهها بالفصول الأربعة، ويذهب إلى حتمية (السقوط ) ، ومن هـنا جاء الهجوم عليه، خصوصا وهو يتنبأ بسقوط الحضارة الغربية.

يقول مترجم كتابه الأستاذ أحمد الشيباني [4] : يرى اشبنجلر أن الحضارة تولد في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة، وتنفصل هـذه الروح الأولية للطفولة الإنسانية الأبدية، كما تنفصل الصورة عما ليس بصورة... [ ص: 160 ]

ويرى أيضا أن الحضارة تولد وتنمو في تربة بيئة يمكن تحديدها تحديدا دقيقا، وأن الحضارة، ككل كائن، لها (طفولتها وشبابها ونضوجها وشيخوختها ) ، وأنها تموت عندما تحقق روحها جميع إمكاناتها الباطنية، على هـيئة شعوب ولغات ومذاهب دينية، وفنون وعلوم ودول، وهي عندما تحقق ذلك، وتستنزف إمكانات روحها في تجسيد هـذه الإمكانات، فإنها تتخشب، وتتحول إلى (مدنية ) ، وأخيرا تتجاوز المدنية إلى الانحلال والفناء.

إنه يشبه الحضارة بالإنسان، تنتقل من طور لآخر حتى تشيخ، ثم يعود ليشبهها بفصول العام، فيقول [5] : (للحضارة ربيعها المتسم بالفاعلية الروحية، وصيفها الذي تنضج فيها، وخريفها الذي يسوده التحليل العقلي، وشتاؤها الذي تكون فيه قد استنفذت جميع إمكاناتها الداخلية، فتنصرف إلى الاهتمامات المادية، وإلى الفتوح الخارجية، ويكون هـذا مقدمة لانحلالها وانهيارها ) .

وقد هـوجم (اشبنجلر ) على تصوراته هـذه، وخصوصا تشبيه الحضارة بالإنسان؛ لأن الحضارة قد تفلح في علاج ما يعترضها من مشاكل، فتطيل في عمرها، ولن يستطيع الإنسان ذلك.

وهو يقسم الحضارة إلى ثلاث حقب: [ ص: 161 ]

1- الدور السابق للحضارة.

2- دور الحضارة الفعالة، ويقسمه إلى: عهد متقدم، وآخر متأخر.

3- دور الحضارة المستنفذة، المؤدي إلى الانحلال.

وهذا التقسيم النظري سهل ميسور، لكن يصعب عند التطبيق.. فمتى تنتهي المرحلة الأولى مثلا، ومتى تبدأ الثانية أو الثالثة؟

إن التداخل بين المراحل يمنع من ذلك.. وهذا النقد وجه ( لتوينبي ) أيضا، حين راح يقسم المراحل كذلك.. أشياء كثيرة تبدو جميلة ورائعة نظريا، وعند التطبيق تبدو ليس كذلك.

مما هـوجم فيه أو عليه (اشبنجلر ) قوله: إن حضارة الغرب الحالية قد وصلت إلى دور الانحلال، وهي صائرة إليه (حتما ) ، وعلى أصحابها أن يجابهوا هـذا المصير، بوعي وشجاعة [6] .

ويرى (اشبنجلر ) أن كل حضارة ستمر بنفس الأدوار التي مرت بها غيرها، كما تظهر إبداعاتها في ذات الأوقات أيضا.

إنه جزم يصعب قبوله، فبعض الحضارات استنفذت قرونا حتى نضجت وأبدعت، بينما لم يحتج غيرها لكل ذلك.

كما أن القول بتجدد الدورات الحضارية، لا يستلزم ذات الوقت للإبداع والنضج، بل لا دليل على ذلك، ومن الغرائب أن (اشبنجلر ) [ ص: 162 ] لا يرى جدوى من دراسة مصادر الحضارات، والعوامل المؤثرة فيها، وفي تطورها، وحجته في ذلك أنه لا يمكن تفسير حضارة خارج نطاقها، والمتشابه من الحضارات لا يتجاوز (الصور والأوضاع والمظهر الخارجي فقط ) [7] .

لأن لكل حضارة شخصيتها المستقلة، كما لها لغتها الخاصة.

والسؤال: هـل يمنع ذلك من دراسة العوامل المؤثرة، وتطور الحضارة؟

ومن آرائه أن الحضارات لا تنتهي، تقدم منها الكثير، وبقي مثل ذلك، وما الحضارة الغربية إلا واحدة، ولكن أهلها قد استغرقهم حب الذات فتـوهموا أنـها مركـز لكل الحضـارات [8] .. ولـو قـالوا وارثة حـضارات لما اعترض أحد.

ولعل من المفيد أن أنقل تصور (اشبنـجلر ) للحضـارة وتعريفه لها إذ يقول [9] : (إنها انبعاث روحي لجماعة من الناس، يربطهم مفهوم متقارب للوجود، فينعكس ذلك على ألوان النشاط المختلف لديهم: في الفن والدين والفلسفة والسياسة والاقتصاد

والحرب ) .

4- أرنولد توينبي :

تـوينـبي يعتـقد بـدورة الحضارة، لكنه يشـبهها بـدوران العجلة حـول محـور ثابـت، فتـتكرر العملية، وبفضل ذلك تسير العجلة [ ص: 163 ] -كما هـو الحال في السيارة- وهو يرى أن للحضارة حركة شاملة، ناتجة عن حركة دورية جزئية. ويضرب أمثلة لهذا التناسق بين حركتين: حركة تقدمية كبرى، محمولة على أجنحة حركة صغرى متكررة، وهكذا تتكرر فصول السنة.

لكنه يختار مثالا آخر، إذ يشبه حركة الحضارة بحركة (مكوك ) الناسج، فهو مستمر في الحركة ذهابا وعودة، وعلى وتيرة واحدة، وبفضل ذلك يتم النسيج المطلوب، وهكذا تنسج الأيام نسيج التاريخ، من خلال تكرر الأحداث، تكرارا مستمرا.

وبذا يجمع توينبي بين حركتين: واحـدة متجهة إلى غاية -أمامية أو خلفية- وحركة أخرى تدور حول نفسها، وتعود إلى ما كانت عليه (المكوك ) [10] .. إن توينبي مات في السبعينيات، ولذا فقد تحامى كل نقد موجه لأسـلافه، مثل اشبنـجلر، كما ابتلي بمعاداة الصهيـونية، وربما أثر كل ذلك على صياغة أفكاره.

5- مالك بن نبي :

يعتقد مالك بن نبي أن حركة الحضارة أو التحضر، تكون بشكل دائري -مثل ابن خلدون واشبنجلر - تبتدئ روحية ثم عقلية، ثم تهيج الغرائز فتسقط الحضارة. [ ص: 164 ]

يقول مالك يرحمه الله [11] :...والمراحل الثلاث في هـذه الدورة، تعبر عن الأدوار الثلاثة، التي يمر بها المجتمع: الحالة الكاملة، حيث تكون جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (الروح) ، ومتصلة بالاعتبارات ذات الطابع الميتافيزيقي.

والمرحلة التالية هـي التي تكون فيها جميع الخصائص والملكات تحت سيطرة (العقل ) بخاصة، ومتجهة نحو المشكلات المادية.

أما المرحلة الثالثة، فتصور نهاية تحللها تحت سلطان (الغرائز ) المتحررة من وصاية الروح والعقل، وفيها يصبح النشاط المشترك مستحيلا، ضاربا بأطنابه في أغوار الفوضى والاضطراب، وهو ما نجده في حالة المجتمع الإسلامي بالأندلس، في العصر المشئوم، المسمى بعصر ملوك الطوائف.

هذا الطرح يشاركه فيه بعض مفكري الغرب أيضا، لكنه يبدو منتزعا من الحضارة الإسلامية في الأندلس والمشرق، كما أن التداخل في المراحل قائم.

التالي السابق


الخدمات العلمية