الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المرجعية ونوعية النقل

د. غليون مغرم بتحديد نوعية الشيء المطلوب نقله، عن حضارة الغرب، كما قاده ذلك للحديث بحرارة عن (المرجعية ) . [ ص: 91 ]

فعن نوعية الشيء المطلوب استيراده يكرر [1] : (من السهل استيراد الآلات والأجهزة والمنتـجات المـادية وغير المادية، لكن ليس من السهل ولا من الممكن استيراد (الفاعلية الثقافية) ؛ لأن الثقافة هـي التعبير الأساسي عن وجود الجماعة كجماعة موحدة، والشرط الأساسي لتحقيق استمرارها وتميزها وتاريخها، أي لإعطائها ذاتية مستقلة ) .

فالثقـافـة هـي مانـحة الهـوية، وهي أيضـا صانعة الـولاء، والأمة -أي أمة- قد لا تكون متحضرة، لكنها لا تعيش بدون ثقافة، واستقلالية الأمة رهن باستقلال الثقافة، فمن لا استقلال له ثقافيا، فكيف تتحقق له الاستقلالية؟!

أما المرجعية، فالناس في المجتمع الواحد يختلفون، فإذا حصل ذلك فـلا بد من مرجعيـة يرجعـون إليها لضبط الاختلاف، وفي ذلك يقول د. غليون [2] : (لا تستطيع أمة أن تتمتع بإرادة ذاتية وقوة معنوية ورؤية نظرية وقاعدة معيارية، إلا بقدر ما تنجح في تأسيس (مرجعية ثابتة) عميقة الجذور، مرتبطة بتاريخها أو بتجربتها التاريخية، ولا تستطيع جماعة أن تبني نشاطها، أو تؤسس وجودها على (مرجعية خارجية) مستمـدة من تاريخ آخـر، ومسـتقـاة من ثقافة أخرى، أي لا تستطيع [ ص: 92 ] أن تجعل من (رمز استبـعادها وتهمـيشها) مـرجـعـا لنـهـضتها الجـديـدة وتغلبها ) .

أعتقد أن المرجعية أمر أساسي، وليس من الترف.. ومن لا يجد مرجعية، سوف يضربه الاختلاف، حتى يجعل من الأمة هـيئة أمم.

يقول الله: ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) (آل عمران:103) ، ويقول: ( ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) (الروم:31-32) ، ويقول: ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) (آل عمران:105) .

ويمكن القـول: بأن المرجعيـة هـي السلك الذي يجمع حبات الأمة، فلا يجعلها تنفرط، فإذا سقطت المرجعية، فما الذي يجمع الأمة؟

قضية أخرى (كبيرة ) تضبطها (المرجعية ) ، كلما شاهدت الاختـلاف في الفضـائيات العربية، يقفز إلى ذهني: أين المرجـعـية، ولمن ينبغي أن نعود، وما معيار الخطأ والصواب؟

لقد وجدت د.غليون يطرح القضية طرحا دقيقا، فيقول [3] : (ما هـو مصدر معلوماتنا الصحيحة؟؟ أي ما معيار التمييز بين الحق والباطل؟ ومن الذي يكفل صحة معارفنا وأحكامنا العقلية وصلاحيتها؟ ونستطيع طرح الموضوع بطريقة أبسط، فنقول: كيف يكون الواقع [ ص: 93 ] ما هـو، أي مطابقا لذاته، أي متسقا، ومن ثم معقولا ومقبولا؟ ليس هـناك مجتمع يمكن أن ينشأ أو يعيش دون أن يحدد لنفسه أسس (المعرفة اليقينية) ، وشروط نمو هـذه المعرفة، والتي هـي أساس نشوء العلم وتطوره، وسبب ومبرر وجوده.. وعن هـذه الأسئلة يصدر السؤال الأعم، الذي يتعلق بنا مباشرة، وهو: لماذا لم يتطور العلم الحديث في المجتمعات العربية المعاصرة، وكيف يمكن تجاوز العقبات، التي تقف أمام هـذا التطور؟

قد يقـول إنـسان: المرجـع هـو العـقل، ولكنه يخـتلف، بل ما أكـثر مـا يختلف، فهل نرجع لعقلي أم عقلك، أم ماذا؟

قد يقول آخر: لنرجع إلى العلم، فهو مرجعنا، وهو الآخر مختلف أيضا، وقد تولى د. غليون الرد والمناقشة فقال [4] : إن الحداثة تفترض أن الواقع (المطابق [ ص: 94 ] لذاته) هـو الواقع الحديث، أو المساير للحداثة، أما مظاهر الحياة التقليدية وأنماطها فكلها ليست واقعا، ولا تحمل انسجاما.

إن الواقع التقليدي ليس له أي قوام حقيقي، وليس مبررا، ووجوده عبارة عـن مظهـر من مظـاهر اللاعقـلانية والانحـطـاط والشـذوذ، وإذن فـ (الحداثة ) هـي (معيار العقلانية والصحة ) ، فلا يمكن للمعرفة أن تكون صحيحة ويقينية إلا عندما يكون نموذجها هـو (الواقع المطابق لذاته ) ، أي الواقع المعاصر، ولما كان العلم أحد منتجات هـذه (المعاصرة ) فهو إذن معيار صحة أفكارنا عن الواقع، وبقدر ما تكون الأفكار مطابقة للعلم، تكون يقينية.

هذا الكلام يبدو -لأول وهلة- معقولا مقبولا، كما يبدو وكأنه يستعمل (المنطق الأرسطي) بما يحمل من صحة ومغالطة.

وأترك الجواب للدكتور غليون فهو يرى أن [5] : (العقلانية العربية هـدفها ومطلبها، نقل العلم، والنظرة العلمية، إلى ثقافة تعتبرها من الأساس فاقدة له، وغير قادرة على إنتاجه. إذن مطابقة أفكارنا للعلم، هـي قاعدة الموضوعية والعلم، كما هـي مجسدة في نظم معرفية جاهزة، تضمن صحة هـذه الأفكار ويقينيتها ) .

ونلاحـظ هـنا، كيف تصادر هـذه المحـاكمة -بالمعـنى المنطقي- على المسألة الأساسية، التي ما كان من الممكن للعلم أن ينشأ بدونها، وهي التساؤل عن مصدر يقينية المعرفة العلمية نفسها، وهو التساؤل الذي قاد إلى تطور العلم، كثمرة لفلسفة ما قبل (علمية مؤسسة العلم ذاته كمفهوم ) .

إن هـذه (المحاكمة) تقول عمليا: إن أصل المعرفة اليقينية (العلم ) نفسه، وبذلك فهي لا تحرم نفسها فقط من التفكير في هـذا العلم، [ ص: 95 ] والتحقق من المسعى العلمي، في كل مرة يسعى فيها الباحث إلى إدراك الواقع وتحليله، وإنما تضفي أيضا على المعرفة العلمية صفة الحقيقة (المطلقة ) ، والمنزلة التي تشكل في ذاتها المبتدأ والمنتهى...

إنها تجعل من العلم معرفة (لاهوتية مقدسة ) مفصولة عن الواقع الذي استمدت منه، وعن المجتمع الذي ظهرت فيه، وعن الذات التي أنشأته، وعن المطلب الذي وضع له.

مرجعية العلم:

إن الغرب مكتشف العلم، لم يعد يعتبره حقيقة يقينية، ولو اعتبره فنحن نبحـث عـن مـرجـع نعـود إليه حين نختـلف، فإذا كـان العلم مـمـا يختلف فيه، فكيف يكون مرجعا ؟

لقد هـربنا من يقينية الأديان، فسقطنا في يقينية العلم، كما فعلت الماركسية، حين شطبت لأديان، ثم ما لبثت أن صارت دينا، أكثر تشنجا وتعصبا، حتى حرمت قراءة الكتب المخالفة، وصادرت حرية المعارض كليا، وهكذا تحولت إلى دين له طقوسه ورموزه، وحتى أنبياؤه، وصار قبر المعلم (ليـنين ) مزارا، وعـلى زائره أن يقف باحـترام، فلا يسمح له مثلا وضع النظارات على رأسه، ولا التحدث...إلخ.

لقد هـربت الحداثة وأهلها من الأديان لتجعل من العلم دينا جديدا، له سدنته وطقوسه! [ ص: 96 ]

إنها تكفر كل من لا يقبل (يقينية العلم ) وصحة وسلامة الحداثة، وتقصيه بعيدا، وتتهمه بالرجعية والظلامية والعودة للقرون الوسطى، إنها جماعة (تكفير ) جديدة، تكفر (وطـنيا ) ، وتبعد وتقصي كل من لا يشاركها الرأي والمعتقد، أنهم مكفرون جدد!

وأخيرا أجد من النـافع المفيـد أن نتساءل: هـل نحن ننـشئ علما، أم نقتبس ونستهلك فقط؟ وهل نحن ننشئ حضارة أم نستهلك منتجات حضارة فقط ؟

وأخيرا هـل نحن بحاجة إلى مرجعية، نرجع إليها عندما نختلف أم لا؟ والسؤال الرابع والأخير: هـل يمكن حل مشاكلنا بخلق عداء بين العقلية العلمية والعقلية الدينية ؟

يقول د. غليون [6] : (إن مشكلة العلم لا تحل بخلق (عداء مطلق) بين وجود العقلية العلمية، والعقلية الدينية أو التقليدية، لأن معنى هـذا أنه علينا أن ننتظر القضاء الكامل على الثقافة التقليدية، حتى نصل إلى اكتساب العقلية العلمية وهذا مناف للواقع، واقع العلم والثقافة في الغرب ذاته، فليس هـناك ما يمنع تعايش الثقافة العلمية والدينية والأدبية، في كافة المجتمعات، القديمة والحديثة، على حد سواء، ويكفي في ذلك إلقاء نظرة على الحركات الدينية المتجددة في أمريكا ) . [ ص: 97 ]

الذي يمـكـن تصـوره أن هـناك حقيـقة روحـية، وحقـيقة علمـية، ولا تناقض بين الاثنين، إلا إذا أسيء فهم إحداهما أو كلاهما.

التالي السابق


الخدمات العلمية