الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المطلب الثاني: موقع نماذج من الصحابيات في الوسط النخبوي

          تمهيد: /14

          لقد أرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. وإن المتأمل في القصص التي أخبرنا عنها القرآن الكريم، يلاحظ بوضوح أنه ما من نبي أرسل إلا وقد وجد معارضة صارخة من ملأ القوم، وهم عادة النخبة الحاكمة وحاشيتها التي تتشكل من نخب أخرى موالية لها مثل السحرة، والعرافين، ونبلاء القوم من الشعراء، والأغنياء.

          لقد كانت هذه النخب ترى أن قدوم أي نبي فيه خطر يهدد مصالحها الشخصية، ولـذا تعمل على محـاربته والتصدي له بكل ما تملكه من قوة. بينما كانت العامة هي المستفيد الأول من دعوة الرسل، تتولى هذه الدعوة تغيير النخبة الفاسدة بالنخبة الصالحة التي تكون في خدمة العامة. وهذا ما وجد عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مجتمعه الذي أرسل إليه. ذلك المجتمع الذي كان محكوما بعادات وتقاليد وأعراف فاسدة، تسيره النخبة الحاكمة وحاشيتها من سحرة وشعراء، جعلتها تلك المعتقدات التي زينتها لهم الشياطين تنصب نفسها آلهة تستعبد الناس بها. لذلك جاء الإسلام يحرر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

          ولقـد كان للمرأة في العصر الجـاهلي حضور في الوسط النخبوي، كما سيأتي، غير أنها لم يكن لها موقع إيجابي مؤثر في وسط العامة، باعتبار أن النخبة في ذاتها كان دورها سلبيا على العامة؛ لأنها كانت موالية للفئة الحاكمة، [ ص: 97 ] بدليل أن العامة من الرجال والنساء كانوا يعيشون حياة القهر والاستعباد. فلقد كان بعض الناس يقتلون أولادهم خشية الإملاق ويئدون بناتهم خشية العار [1] . لقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم والفساد قد مس جميع جوانب الحياة، باستثناء ما بقي من مكارم الأخلاق والتي جاء ليتممها، فتولى بنفسه بناء مجتمع أنموذجي ليكون نبراسا للعالمين، فأحدث نقلة نوعية في الوسط النخبوي، فأشرف على تربية عناصره رجالا ونساء، ليتولوا قيادة وتوجيه المجتمع بعده. لقد تكفل النبي صلى الله عليه وسلم بتصحيح مسار الحركة الفكرية لتلك النخبة حتى تكون نعمة للمجتمع، وليس نقمة عليه عندما تؤدي الدور الفعال الذي خلقت لأجله.

          إن وجـود العنصر النسـوي في الوسط النخبوي لم يكن بدعا من الرسول صلى الله عليه وسلم كما أسلفت، بل كان موجودا في العصر الجاهلي قبل الإسلام بدليل ما روي عن السيدة عائشة، رضي الله عنها، قالت: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 98 ] أن امرأة من بني فزارة يقال لها: أم قرفة جهزت ثلاثين راكبا من ولدها وولد ولدها وقالت: اذهبوا إلى المدينة فاقتلوا محمدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم أثكلها بولدها"، وبعث إليهم زيد بن حارثة في بعث فالتقوا فقتل زيد بني فزارة وقتل أم قرفة وولدها فأقبل زيد حتى قدم المدينة" [2] .

          ومن بين هذه العناصر أيضا هند بنت عتبة، التي اشتهر دورها وأثرها في غزوة أحد "قال ابن بري: هي هند بنت بياضة بن رباح بن طارق الإيادي، قالت يوم أحد تحض على الحرب:

          نحن بنات طـارق لا ننثني لوامــق     نمشي على النمارق
          المسك في المفـارق     والدر في المخانـق
          إن تقبلـوا نعانـق     أو تدبروا نفـارق
          فراق غيـر وامـق



          أي أن أبانا في الشرف والعلو كالنجم المضيء. وقيل أرادت القول: نحن بنات ذوات الشرف في الناس كأنه النجم في علو قدره" [3] .

          وبعد أن أسلمت بقيت محافظة على مؤهلاتها كما يبدو في هذه الرواية، عن قتادة السدوسي قال: "...اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله على الإسلام.. فلما فرغ رسول الله من بيعة الرجال بايع النساء، واجتمع إليه نساء من نساء قريش، فيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لحدثها وما كان من صنيعها بحمزة، فهي تخاف أن يأخذها رسول الله بحدثها ذلك، فلما دنون منه [ ص: 99 ] ليبايعنه قال رسول الله فيما بلغني: ( تبايعنني على ألا تشركن بالله شيئا ) فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما تأخذه على الرجال وسنؤتيكه. قال: ( ولا تسرقن ) . قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلا لي أم لا؟ فقال أبو سفيان، وكان شاهدا لما تقول: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل. فقال رسول الله: ( وإنك لهند بنت عتبة؟ ) فقالت: أنا هند بنت عتبة فاعف عما سـلف عفا الله عنك. قال: ( ولا تزنين ) قالت: يا رسول الله، هل تزني الحرة؟! قال: ( ولا تقتلن أولادكن ) قالت: قد ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا فأنت وهم أعلم. فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى استغرب. قال: ( ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ) قالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح ولبعض التجاوز أمثل. قال: ( ولا تعصينني في معروف ) قالت: ما جلسنا هذا المجلس ونحن نريد أن نعصيك في معروف" [4] .

          لم يلغ النبي، عليه الصلاة والسلام، موقع المرأة في الوسط النخبوي، بل على العكس تماما، أقر وجوده وأهميته وصحح مساره، فاقتلع جذور المعتقدات والأعراف الفاسدة، واستبدلها بما أوحي إليه من ربه، كما قال عمر: ( والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرا حتى أنزل الله فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم... ) [5] . ولقد رأينا ثمار عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة في المبحث السابق من [ ص: 100 ] خلال أثر المرأة عموما في رواية الحديث ونقل الفقه. غير أن المتتبع لسيرة الصحابيات في كتب التاريخ يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ركز عنايته أكثر، وأشرف على نخبة من النساء، منهن من كن من بين أزواجه ومنهن من كن غير ذلك، باعتبارهن عناصر نخبوية، لها دورها الخاص في تحريك عجلة الحركة العلمية والتغيرية في المجتمع. تلك النماذج تثبت لنا أن مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم . وعلى رأس تلك المشاركة الإسهام في صنع الرأي العام الفكري بأنواعه، سواء السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. وهذا ما يدل على أهمية وضرورة وجودهن في الوسط النخبوي، وأن غياب هذه السنة في المجتمع يترتب عنها نتائج مضرة به.

          لقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتوفير جو من العناية الخاصة لبعض الصحابيات. وكان في مقدمتهن عائشة، رضي الله عنها، والتي خصصت لها مبحثا خاصا مفصلا. فلقد كان يشجع الصحابيات اللواتي كانت لديهن مؤهلات فطرية، فيشجع روح السؤال والبحث عن الحقيقة في نفوسهن، ويشجع من كانت تعرف الكتابة على أن تعلم غيرها، ويثني على الجرأة التي تميزت بعضهن بها. وكان من عادته زيارة بعض النساء الفضليات يتفقد أحوالهن، وقد يقيل عند بعضهن، كما سنرى في بعض الروايات، فكانت فرصة لإدلائه ببعض توجيهاته لشد عزمهن على القيام بدورهن تجاه أنفسهـن وتجـاه المجتمع، وغـير ذلك مما سنراه من خلال استعراض سير بعض الصحابيات اللاتي انتقيتها. وقبل الخوض في سيرة هذه النماذج النسائية تجدر الإشارة إلى الملحوظات التي [ ص: 101 ] توصلت إليها واستقيتها من المصادر والمراجع، التي تناولت سيرة الصحابيات اللاتي اخترتهن [6] ، وهي كالآتي: [ ص: 102 ]

          - المراجع التي ألفت حول سـيرة الصحـابيات لم تستـطع أن تضيف أكثر مما ورد في المصادر؛ لأنـها تقيدت بالروايات الواردة فيها، وأمثـلة ذلك كثيرة سبق ذكرها في الهامش وسـيرد ذكرها لاحقا عند الوقوف عند سـيرة كل صحابية، وإن كان بعض المؤلفـين تجاوز هذا الحد بدون أدلة علمية. منهم من قام بعرض الروايات باختصار بدون تحليل مثل كتاب "عظماء حول الرسول" الذي نجـده مثلا أورد تأويلا خـاطئا في عن الشفـاء، رضي الله عنها، من خلال حديث رقية النملة. ومنهـم من رجع إلى الروايات بدون توثيـق مثل كتاب "مواقـف نسائية مشرفة" و"صحابيات ومواقف" و"ألقاب الصحابيات". حيث قام مؤلف الكتابين الأخيرين بتركيب قصص صحابيات بدون أدنى توثيق، فنجده مثلا عندما تحدث عن الشفاء ذكر ما جاء في الروايات دون توثيق لذلك. وقام بعضهم بالتوثيق والتحليل مثل كتاب "نساء أهل البيت في ضوء القرآن والسنة".

          - أعطت المصادر مساحة أكبر في التأليف لأمهات المؤمنين. أما باقي الصحـابيات فـلقـد ارتبـط ذكرهن بـما روين من أحـاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

          - وحتى أمهات المؤمنين، ركزوا في التأليف عنهن خاصة في القضايا المتعلقة بزواجهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم . يعني جاء التأليف عنهن بسبب التأليف عن الرسول صلى الله عليه وسلم . فمن رحمة الله أنهن ارتبطن برسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لانقرضت [ ص: 103 ] إسهاماتهن بوفاتهن. ومن رحمته أيضا أن عددهن كان كثيرا. وارتبطت بحاجة المحدثين إلى رواياتهن عن النبي صلى الله عليه وسلم .

          - وبعض الصحابيات اللواتي كن سببا في نـزول بعض الآيات من القرآن الكريم لم تصلنا إسهاماتهن الفكرية والاجتماعية. على الرغم من ارتباطهن بقضايا مهمة، كما رأينا سابقا.

          - أسماء بارزة من الصحابيات عدت من ضمن فقهاء الصحابة، ووصفت بذوات العقول ولم يصلنا فقههن كما وصلنا فقه عمر، رضي الله عنه، وغيره.

          - حظيت عائشـة، رضي الله عنه، أكثر من غيرهن بالتأليف، وعلى الرغـم من ذلك لم تصـلنا إسهاماتـها الفقهـية بالحجم الذي تصفه المصـادر؛ أقـوالها متناثرة في كتب الفقه تحتـاج إلى عملية جمع لرسم منهجها الفكري.

          - القول: إن الصحابيات روين في القضايا الخاصة بالنساء فقط كلام غير صحيح، بدليل ما ورد من الروايات، كما سيأتي.

          - وعـليه، انتقيـت بعض الأسمـاء بسبب المـادة المتـوفرة، وليس من باب التفضـيل، وإنـما على أسـاس الإسهـامات التي وصلتنا عنهن في المصادر. [ ص: 104 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية