الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          4- أم المؤمنين زينب بنت جحش [1] :

          زينب أم المؤمنين، بنت جحش بن رياب، وابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . أمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، وهي أخت حمنة وأبي أحمد، من المهاجرات الأول. تزوجت زيدا مولى النبي صلى الله عليه وسلم وهي غير راغبة فيه؛ وهي التي يقول الله فيها: ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ) (الأحزاب:37 )، فزوجها الله تعالى بنبيه بنص كتابه بلا ولي ولا شاهد، فكانت تفخر بذلك على أمهات المؤمنين وتقول: زوجكن أهاليكن، "وزوجني الله من فوق عرشه". وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج بزينب في ذي القعدة سنة خمس وهي يومئذ بنت خمس وعشرين سنة، وكانت صالحة صوامة قوامة بارة. ويقال لها: أم المساكين [2] .

          عن أنس قال: ( لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: فاذكرها علي. قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها. قال: فلما [ ص: 132 ] رأيتها عظمت في صدري، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكـرها، فوليتها ظهـري، ونكصت على عقبي، فقلت: يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل عليها بغير إذن.. ) [3] .

          لم ترو أم المؤمنين زينب بنت جحش روايات كثيرة كغيرها، حيث بلغت أحد عشر حـديثا فقط. وحديثها في الكتب الستة. روى عنها ابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش وأم المؤمنين أم حبيبة وزينب بنت أبي سلمة، وأرسل عنها القاسم بن محمد. توفيت في سنة عشرين، وصلى عليها عمر.

          ولقد كان لأم المؤمنين زينب بنت جحش قدرات وصفات متميزة، حيث يروى عن عمرة عن عائشة قالت: يرحم الله زينب، لقد نالت في الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف، إن الله زوجها، ونطق به القرآن، وإن رسول الله قال لنا: أسرعكن بي لحوقا أطولكن باعا، فبشرها بسرعة لحوقها به، وهي زوجته في الجنة. وعن عائشة أيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه: يتبعنـي أطولكن يدا. فـكنا إذا اجتمعنا بعده نمد أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نـزل نفعله حتى توفيت زينب، وكانت امرأة قصيرة، لم تكن، رحمها الله، أطولنا، فعرفنا أنما أراد الصدقة. وكانت صناع اليد، فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق [4] . [ ص: 133 ]

          لقد كانت زينب أنموذجا في الزهد، فعن برزة بنت رافع قالت: أرسل عمر إلى زينب بعطائها. فقالت: غفر الله لعمر، غيري كان أقوى على قسم هذا. قالوا: كله لك. قالت: سبحان الله واستترت منه بثوب. وقالت: صبوه واطرحوا عليه ثوبا، وأخذت تفرقه في رحمها وأيتامها، وأعطتني ما بقي، فوجدناه خمسة وثمانين درهما، ثـم رفعت يدها إلى السمـاء، فقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا" [5] .

          بقيت زينب حريصة على الصدقة لدرجة أنها أوصت بالتصدق بكفنها. فعن القاسم بن محمد قال: قالت زينب بنت جـحش حين حضرتـها الوفاة: إني قد أعددت كفني، فإن بعث لي عمر بكفن، فتصدقوا بأحدهما، وإن استطعتم إذ أدليتموني أن تصدقوا بحقوتي فافعلوا [6] .

          لقد وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأحسن الأوصاف، إذ روي عن عبد الله بن شداد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "إن زينب بنت جحـش أواهة". قيـل: يا رسول الله، ما الأواهة؟ قال: الخاشعة المتضرعة ( إن إبراهيم لحليم أواه منيب ) (هود:75).

          روي عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت وهي تتحدث عن زينب: "كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم أر امرأة قط خيرا [ ص: 134 ] في الدين من زينب، وأتقى لله وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى ما عدا سورة من حدة كانت فيها تسرع منها الفيئة.." [7] .

          - موقع أم المؤمنين زينت في الوسط النخبوي:

          يتجلى موقع زينت النخبوي بشكل غير مباشر من خلال ارتباط سبب نزول بعض الآيات بها، ومن خلال بعض الروايات السنية.

          يقول تعالى: ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا ) (الأحزاب:37 )، "قال العوفي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قوله تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا [ ص: 135 ] مؤمنة ) الآية، ذلك ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة، رضي الله عنه، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية، رضـي الله عنها، فخطبها، فقالت: لست بناكحته. فقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : "بل فـانكحيـه". قـالت: يا رسـول الله، أؤامـر في نفسي؟ فبينمـا هما يتحدثان أنـزل الله هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ) الآية. قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم". قالت: إذا لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد أنكحته نفسي. )

          وقال ابن لهيعة عن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ( خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، رضي الله عنه، فاستنكفت منه، وقالت: أنا خـير منه حسبا، وكانت امرأة فيها حدة، فأنـزل الله تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ) الآية كلها ) [8] .

          لقد كانت زينب بنت جحش، رضي الله عنها، سببا لنـزول هذه الآيات التشريعية، قبل أن تحظى بلقب أم المؤمنين. بل وكانت ناقمة على الزواج الأول كما كان يصف زيد معاملتها له. لقد امتحنت بالزواج السابق، والذي قبلت به امتثالا لأوامر الله عز وجل، فأكرمها الله عز وجل بأفضل زوج بعد زيد، وهو نبي الله خير خلق الله، عليه الصلاة والسلام، ولقد كانت ظاهرة التبني منتشرة في الجاهلية وقبل نـزول هذه الآية. لذلك ابتليت زينب وابتلي زيد، رضي الله عنها، لتكون نهاية زواجهما بداية لقانون إلهي يمنع التبني؛ لأن زيدا كان ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبني، فزوج الله عز وجل الرسول صلى الله عليه وسلم بزينب ليضع حدا لظاهرة التبني ويصون الأنساب.

          والحكمة التي نستخرجها من الخطاب القرآني هو أن التشريع انبنى على أحداث صنعها الطرفان، الرجل والمرأة. ولحكمة الخالق، جل وعلا، كان [ ص: 136 ] يشرع بناء على أحداث قد يكون سببها رجال أو نساء، ولم تكن تظهر نوع من الوصايا أو احتكار الرجل لصنع القرار التشريعي بل العكس. فالتشريع الذي ينتجه طرف واحد، لا يمـكن أن يؤدي وظيفتـه الحقيقية، أو سيكون لا محالة مصدرا لمشاكل خطيرة في المجتمع.

          وتعد أم المؤمنين زينب بنت جحش أنموذجا آخر من النساء، فهي امرأة صناع كما وصفتها السيدة عائشة، رضي الله عنهما، فلقد كانت تصنع من يدها، وتتصدق بمالها على المحتاجين من أرامل وأيتام، فلم تكن تصنع لتتكفل بالنفقة على نفسها. لقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم بمشاركتها الفعالة في المجتمع. ومن حكمة الله عز وجل أنها لم تنجب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلو أنجبت لقيل إنها كانت تنفق على أولادها. لقد فقهت زينب المعنى الحقيقي للعبودية لله عز وجل؛ فلقـد كانت صوامـة قوامة، كما وصفت، وهذا لم يمنعهـا من أن تكون أطـول نساء النبي صلى الله عليه وسلم يدا، أي أكثرهن تصدقا. فلم يمنعها صيامها وقيامها من ممارسة حرفة الصناعة اليدوية لتسهم بها في رقي المجتمع، فيستفيد المجتمع من إنتاجها من جهة، ومن مالها من جهة أخرى، وتستفيد هي من مالها لتفوز بآخرتها. روت زينب (11) حديثا، كما أسلفنا. يكفي هذا العدد لبناء نظام اجتماعي خاص يرسم سلوكيات اجتماعية محددة. ويكفي أن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم بعملها والثناء على كثرة تصدقها قد رسم أحد أوجه مشاركة المرأة في التنمية الاجتماعية ووضع الهدف الصحيح من عمل المرأة. [ ص: 137 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية