الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          - أمهات المؤمنين، رضي الله عنهن:

          1- أم المؤمنين أم سلمة [1] :

          أم سلمة هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم بن يقظة بن مرة المخزومية، بنت عم خالد بن الوليد سيف الله، وبنت عم أبي جهل بن هشام، القرشية. وكان أبوها يلقب "زاد الركب"، وقيل: اسمه حديفة وكان يلقب بزاد الراكب لأنه كان أحـد الأجواد، فكان إذا سافر لم يحمل أحد معه من رفقته زادا، بل هو كان يكفيهم. من المهاجرات الأوائل؛ كانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند أخيه من الرضاعة أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، الملقب بذي الهجرتين.

          دخل بها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة أربع من الهجرة، وكانت من أجمل النساء وأشرفهن نسبا. ولها أولاد صحابيون: عمر وسلمة وزينب. وكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين، عمرت حتى بلغها مقتل الحسين الشهيد، فوجمت لذلك وغشي عليها، وحزنت عليه كثيرا، ولم تلبث بعده إلا يسيرا وانتقلت إلى [ ص: 105 ] الرفيق الأعلى. عاشت نحوا من تسعين سنة. وقيل: أربعة وثمانين، وتوفيت سنة إحدى وستين. وقيل: تسعة وخمسين.

          لقد كان لأم سلمة إسهام بارز في الحديث، حيث كانت تعد من فقهاء الصحابيات. وتعتبر هي ثاني راوية بعد عائشة. وقد بلغت مروياتها، رضي الله عنها، (378) رواية. وروى عنها عدد من الصحابة، فقد روت عنها عائشة، وأبو سعيد الخدري، وعمر بن أبي سلمة، وأنس بن مالك، وبريدة بن الحصين الأسلمي، وسليمان بن بريدة، وأبو رافع، وابن عباس. كما روى عنها أيضا سعيد بن المسيب وشقيق بن سلمة والأسود بن يزيد والشعبي وأبو صالح السمان ومجاهد ونافع بن جبير بن مطعم ونافع مولاها ونافع مولى ابن عمر وعطاء بن أبي رباح وشهر بن حوشب وابن أبي مليكة وغيرهم.

          وقد روت [2] أم سلمة في مختلف الأبواب. ومعظم مروياتها في الأحكام وما اختص بالعبادات أساسا:

          ففي أبواب الطهارة: روت عن الغسل وآدابه؛ كما روت عن طريقة غسل المرأة التي تشد ضفر رأسها؛ وعن طهارة الثوب؛ واغتسال الزوجين من إناء واحد؛ وعن غسل المرأة التي تحتلم؛ وروت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينام جنبا؛ وما يتعلق بالاستحاضة؛ واستدركت على أبي هريرة في الوضوء مما مسته النار.. وغيرها.

          وفي أبواب الصلاة: أخبرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان أشد تعجيلا للظهر من القوم الذين عاصرتهم، وأنهم هم أشد تعجيلا للعصر منه؛ وعن صلاة [ ص: 106 ] الوتر؛ وإذا حضر العشاء والصـلاة في وقت واحد يبدأ بالعشاء؛ وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقراءته بالليل؛ وعدم النفخ في التراب عند السجود؛ وصلاة النساء في البيت؛ وصـلاة نافـلة الظهر البعدية وجواز استدراكها بعد صلاة العصر؛ وأنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس في صلاة النوافل وليست المكتوبة؛ وأخبرت أن النساء كن يخرجن من المسجد قبل الرجال.

          وفي أبواب الصوم: صيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ يصبح وهو جنب ثم يصوم؛ كان يقبلها وهو صائم؛ صوم شعبان؛ إذا دخلت العشر فأراد رجل أن يضحي.

          وروت أيضا في الجنائز: عدة المتوفي عنها زوجها وهي حامل؛ النهي عن النياحة على الميت؛ في الدعاء الذي يدعى به للميت؛ عدة المتوفي عنها زوجها؛ نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبر أو يجصص؛ عدم تزين المعتدة المتوفى عنها زوجها.

          وفي اللباس: روت عما يتعلق بالحجاب؛ ما قاله عن من تنـزع ثيابها في غير بيتها؛ وعلى أن القميص كان أحب ثوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وعن أمر الرسول نساءه يحتجبن من الـمكاتب.

          وفي الحج: اشتكت المرض فأمرها بالطواف وهي راكبة؛ أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر في مكة؛ الإحرام من بيت المقدس؛ عن النفساء أثناء الحج؛ ما يخص الحج.

          وفي خير الأعمال: خير الأعمال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أدومها وإن قل.

          وفي الزواج: عدم جواز الجمع بين الأختين في الزواج، التساوي في توزيع الأيام على الضرائر؛ إتيان الزوج زوجته أنى شاء. [ ص: 107 ]

          وفي النفقة: روت جواز إنفاق المرأة على أبنائها من زوجها المتوفى عنها وهي تحت عصمة زوج آخر.

          وعن وصية النبي صلى الله عليه وسلم : روت عن آخر وصية للرسول صلى الله عليه وسلم .

          وفي القضاء: عن بشرية النبي صلى الله عليه وسلم في القضـاء إذ لا يقـول المتخاصمان إلا الحق حتى لا يخطئ القاضي في حق أحدهما لأنه بشر يبني على ما يسمع. والأمر نفسه ينطبق على أي قاضي.

          وفي موضـوع الأكل: المنهي عنه من الأكل؛ النهي عن الشرب في إناء من فضة.

          وعن أهل البيت: فضل أهل البيت؛ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بيته؛ فضل أهل البيت وعدم سبهم؛ أن علي كان أقرب الناس به عهدا.

          وفي الفتن ومسائل أخرى متفرقة: روت عن المكرهين في الجيش الذي يخسف بهم بأنهم يبعثون على نياتهم؛ أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم عن العذاب الذي سيصيب أمته إذا انتشرت فيها المعاصي ولو كان فيها صالحون؛ إخبار النبي، عليه الصلاة والسلام، عمارا بأنه تقتله الفئة الباغية. وروت أيضا ما قاله عن ابن سمية في يوم الخندق؛ وأن من الصحابة من لا يراه يوم القيامة. كما روت الدعاء الذي دعاه النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف؛ وعن أكبر نسبة من المال رأتها أتى بها النبي صلى الله عليه وسلم . وهي التي روت الرواية الخاصة بالمساواة بين الجنسين "ما لنا لا نذكر كما يذكر الرجال"؛ وكذلك قبول الرسـول صلى الله عليه وسلم الهدايا. كما أنها هي التي أخبرتنا أن سر الرسول صلى الله عليه وسلم كعلانيته؛ وأيضا عما يقال عند المصيبة؛ وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الشهر تسعة وعشرون يوما ) وأيضا [ ص: 108 ] هي التي حكت القصة التي أضحكت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا وهي أنه نهى عن كل مسكر ومفتر؛ ونهيه عن حكم استخدام الذهب.

          ومن هذا، نخلص إلى القول: إن مرويات أم المؤمنين أم سلمة، رضي الله عنها، تمس القضايا المتعلقة بالمرأة، وبعض القضايا التي تهم الرجال، وبعض القضايا التي تهم الناس عامة.

          - موقع أم سلمة في الوسط النخبوي:

          يتجلى موقع أم سلمة، رضي الله عنها، من خلال الروايات التي وصلتنا عن طريق المصادر. ولقد حظيت ببعض العناية في التأليف لكونها ثاني راوية للحديث بعد عائشة، رضي الله عنها، من حيث الكثرة. وتعد شخصية أم سلمة نموذجا نخبويا متميزا إلى جانب نموذج عائشة، فلقد كانت وراء سبب نزول بعض الآيات التي تتناول مواضيع لا تزال تطرح إلى يومنا هذا. ويبدو من خلال بعض التفاسير [3] ، وبعض الكتب التي تناولت دراسة أسباب نـزول آيات القرآن أن هذه الآيات الثلاث وهي: قوله تعالى: ( ولا تتمنوا ما فضل الله [ ص: 109 ] به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ) (النساء:32) ، وقوله تعالى: ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) (الأحزاب:35 )، وقوله تعالى: ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ) (آل عمـران :195) ، نـزلت في أم سلمة، رضي الله عنها، ويبقى هذا الاحتمال ظنيا ضعيفا نتيجة لعدم توفر الروايات الصحيحة لذاتها، كما سيتضح:

          فأما بالنسبة للآية الأولى فلقد اتفق المفسرون حول معناها أو الحكم الذي يستخرج منها، وهو النهي عن الحسد، واختلفوا حول ما إذا كان التمني غبطة وليس حسدا، يجوز أم لا [4] . واختلف المفسرون حول سبب نـزول هذه الآية. نتيجة لكثرة الروايات المتباينة، ولعدم ورود روايات صحيحة لذاتها لحسم [ ص: 110 ] هذه المسألة بترجيحها على باقي الروايات [5] . ويمكننا تصنيف الروايات التي تحدثت عن سبب نـزولها إلى ثلاثة اتجاهات:

          1- اتجاه يسرد الروايات التي تفيد بأنها نـزلت في النساء -بعد نـزول الآيات الخاصة بتقسيم الميراث والتي تفيد بأن للذكر مثل حظ الأنثيين- تمنين بلوغ "منازل الرجال، وأن يكون لهم ما لهم، فنهى الله عباده عن الأماني الباطلة، وأمرهم أن يسألوه من فضله، إذ كانت الأماني تورث أهلها الحسد والبغي بغير الحق" [6] . وفي هذا الاتجاه نجد ثلاث روايات:

          - ما روي عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، ولنا نصف الميراث؟ فأنـزل الله: ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) (النساء:32) ، ولقد رويت هذه الرواية عن مجاهد بطرق متعددة وبألفاظ مختلفة [7] . [ ص: 111 ]

          - عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ( أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت: يا رسول الله، للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل، أفنحن في العمل هكذا، إن فعلت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة؟ فأنزل الله: ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) ، فإنه عدل مني وأنا صنعته ) [8] .

          - وقال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن شيخ من أهل مكة قال: نـزلت هذه الآية في قول النساء: ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل الله عز وجل. وروي عن مجاهد نحو ذلك [9] .

          2- واتجاه ثان يرى أنها نـزلت في الرجال وفي النساء بعد نـزول الآية السابقة والخاصة بالميراث، حيث طالب الرجال الزيادة في الأجر على النساء، وطالبت النساء المساواة. كما جـاء في الرواية بطرق متعددة وبألفاظ مختلفة كما روي عن السدي في الآية أن رجالا قالوا: إنا نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء كما لنا في السهام سهمان، وقالت النساء: إنا نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء، فإنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا. فأبى الله ذلك، ولكن قال لهم: سلوني من فضلي. قال ليس بعرض الدنيا. وقد روي عن قتادة نحو ذلك [10] . [ ص: 112 ]

          3- واتجاه ثالث أن تكون نـزلت في الرجل يتمنى النعم التي أنعمها الله على غيره من الرجال في أمور الدنيا. عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: ولا يتمنى الرجل فيقول: ليت لو أن لي مال فلان وأهله فنهى الله عن ذلك، ولكن يسأل الله من فضله [11] . وأورد ابن كثير ما يلي: "وقـال الحسن ومحمد ابن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا. وهو الظاهر من الآية، ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح ( لا حسد إلا في اثنتين... ) [12] .

          خلاصة القول: إن سبب نـزول هذه الآية قد يكون أحد هذه الاتجاهات. فلا يمكن الجزم بأنها نـزلت في أم سلمة، رضي الله عنها، لكثرة الروايات المتباينة في المتن، وعدم ورود روايات صحيحة لذاتها؛ وإن حاول بعضهم أن يثبت نـزولها فيها، فهذا راجع إلى تعدد طرق الروايات التي يقوي بعضها بعضا. وهذا الذي جعل -كما يبدو- الحاكم يجزم في مستدركه بسماع مجاهد من أم سلمة فصحح الحديث. غير أنه لا يمكننا الجزم بصحة نسبة متن من المتون المتباينة، والتي تحمل في طياتها معاني مختلفة، فقد تكون أم سلمة، رضي الله عنها، سألت النبي صلى الله عليه وسلم وهي تريد منافسة الرجال في الأجر، وهذا التساؤل لا يعبر عن رأي أم سلمة فقط، إنما يعبر عن رأي أخواتها من النساء. وقد تكون سألته وهي تقصد المساواة؛ لأن الأمر استشكل عليها، وهذا الرأي يعضده نـزول باقي الآية أي: ( للرجال نصيب مما اكتسبوا [ ص: 113 ] وللنساء نصيب مما اكتسبن ) (النساء:32) ، والآية التي جاءت مبينة للهدف من إعطاء الذكر مثل حظ الأنثيين: ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ... ) (النساء:34).

          كما أورد القرطبي وغيره في تفسيره: "وقيل: سببها قول أم سلمة المتقدم. ووجه النظم أنهن تكلمن في تفضيل الرجال على النساء في الإرث، فنـزلت ( ولا تتمنوا ) الآية. ثم بين تعالى أن تفضيلهم عليهن في الإرث لما على الرجال من المهر والإنفاق. ثم فائدة تفضيلهم عائدة إليهن. ويقال: إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير، فجعل لهم حق القيام عليهن لذلك. وقيل: للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء؛ لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة، فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة، فيكون فيه معنى اللين والضعف، فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك وبقوله تعالى: ( وبما أنفقوا من أموالهم ) [13] .

          وأما عن الآية الثانية، فلا يختلف وضعها كثيرا عن الأولى، حيث وردت في سبب نـزولها روايات متباينة أيضا، غير أنها تصب في اتجاهين اثنين:

          1- الاتجاه الأول، وهو الغالب لتعدد طرق روايته وصحة أسانيدها، جاءت فيه روايات تفيد بأن النساء استفسرن من رسول الله صلى الله عليه وسلم : لماذا لا تذكر [ ص: 114 ] النساء في القرآن كما يذكر الرجال؟ فنـزلت هذه الآية، ردا على هذا الاحتجاج، ولتثبت المعنى الحقيقي للمساواة بين الرجل والمرأة. قوله تعالى: ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) أي على الطاعات.

          ونجد أربع روايات في هذا الاتجاه:

          تشـير الرواية الأولى إلى أن هـذه الآية نـزلت في أم سلـمة، رضي الله عنها. روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن شيبة قال ( سمعت أم سلمة، رضي الله عنها، زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت: فلم يرعني منه يومئذ إلا ونداؤه على المنبر، قالت: وأنا أسرح شعري، فلففت شعري، ثم خرجت إلى حجرة من حجر بيتي، فجعلت سمعي عند الجريد، فإذا هو يقول عند المنبر: "يا أيها الناس إن الله يقول في كتابه: ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ) (الأحزاب:35) إلى آخر الآية ) [14] . [ ص: 115 ]

          وتذكر الرواية الثـانية ( أن هذه الآية نـزلت في أم عمـارة الأنصارية. عن أم عمـارة الأنصـارية أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقـالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت هذه الآية: فنـزلت هذه الآية: ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ) الآية ) [15] .

          2- أما الاتجاه الثاني فيفيد أن نساء استفسرن عن سبب ذكر القرآن لنساء النبي، عليه الصلاة والسلام، وعدم ذكره لهن. ولقد وردت رواية واحدة في هذا الاتجاه.

          - روي عن قتادة قال: دخل نساء على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلن: قد ذكركن الله تعالى في القرآن، ولم نذكر بشيء، أما فينا ما يذكر؟ فأنـزل الله تعالى: ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ) [16] .

          وخلاصة القول: إن الاتجاه الأول هو الراجح في رأيي، نظرا لكثرة الروايات التي رويت فيه وبطرق متعددة؛ وإن لم يثبت صحتها، غير أن تعدد طرقها يقوي بعضها بعضا. والراجح أيضا أنها نـزلت في أم سلمة، رضي الله عنها، للسبب نفسه.

          أما الآية الثالثة، فيبدو فيها اتجاه واحد حسب الروايات التي وردت في سبب نـزولها، يفيد هذا الاتجاه أنها نـزلت في أم سلمة، رضي الله عنها، [ ص: 116 ] تستفسر النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب عدم ذكر الله عز وجل النساء في الهجرة. ولقد وردت في هذا الاتجاه روايات هي كالآتي:

          - ( عن أم سلمة، رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة؟ فأنزل الله تعالى: ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) (آل عمران:195) ) [17] .

          - وأخرج ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سـلمة، رضي الله عنها، أنها قالت: آخر آية نـزلت هذه الآية ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) (آل عمران:195) ، وذلك أنها قالت: ( يا رسول الله، أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء؟ فنـزلت: ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ) (النساء:32) ، ونـزلت ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ) (الأحزاب:35 )، ونـزلت هذه الآية فهي آخر الثلاثة نـزولا وآخر ما نـزل بعد ما كان ينـزل في الرجال خاصة ) [18] .

          - عن أم سلمة، رضي الله عنها، قالت: ( يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة؟ فأنزل الله تعالى: ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) ) [19] . [ ص: 117 ]

          - مثال السبب الواحد ينـزل فيه أكثر من آيتين ما أخرجه الحاكم والترمذي ( عن أم سلمة، رضي الله عنها، أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنـزل الله ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) . )

          - وأخرج الحاكم أيضا عنها أنها قالت: ( قلت: يا رسول، الله تذكر الرجال ولا تذكر النساء، فأنـزلت: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات (الأحزاب:35 )، وأنـزلت: ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) ) [20] .

          خلاصة القول:

          لا يوجد تشريع على وجه الأرض يصـف المساواة بين الرجل والمرأة يعادل هـذه الآيات التي أنـزلها رب العباد على عباده. ودلت هـذه الآيات على أهمية صوت المرأة، التي كانت سببا في نـزول آيات تشريعية تضمن حق المساواة، وأهمية وجودها عبر الزمن للحرص على هذا الكنـز والسهر على متابعة تطبيقـه كما أراده الله عز وجل؛ كما تـبرز بوضوح دور المرأة النخبوي، فأم سلمة، رضي الله عنها، من بين أولئك النساء اللواتي تربين في مدرسـة المصطـفى، عليه الصـلاة والسـلام، وكان لهن أثر واضـح، كما سنرى لاحقا. [ ص: 118 ]

          سؤال النساء:

          لقد سألت أم سلمة، رضي الله عنها، النبي صلى الله عليه وسلم وهي تريد منافسة الرجال في الأجر. وهذا التساؤل لا يعبر عن رأي أم سلمة فقط، وإنما يعبر عن رأي أخواتها من النساء. وقد تكون سألته وهي تقصد المساواة بين الجنسين، الرجل والمرأة، فنـزل قرآن يتلى يقر بالسؤال، ففصل في المسائل التي سألت عنها، وبين عدله في توزيع الوظائف والثواب بين الذكر والأنثى. فبين كما ذكر الدكتور ليث سعود جاسم أن "هذه التكاليف هي تكليف تخصيص لا تكليف تفضيل. فالجهاد والإنفاق على الزوجة والعصبات خاص بالرجل، وما خص به فهو الأفضل له والمناسب لطبيعته ودوره في النظام الاجتماعي الإسلامي، وما خصت به المرأة من التكليف فهو الأفضل لها، وفضلت به على الرجل.." [21] ، وإثارة أم سلمة دليل إقرار القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم على شرعية السؤال من جهة، وعلى تشجيع هذا النوع من النساء على المضي قدما في السؤال فيما يخص مصالحهم الدينية والدنيوية من جهة أخرى. وهذا دليل أيضا على ضرورة وجود هذا العنصر من النساء، يسهر على مراقبة مدى تطبيق هذه المساواة العادلة كما أرادها الله عز وجل.

          لقد تجلى موقع أم سلمة، رضي الله عنها، في الوسط النخبوي من خلال اهتمامها بأمور المسلمين. فعن عبد الله بن رافع قال: كانت أم سلمة تحدث أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر وهى تمتشط: ( أيها الناس" فقالت لماشطتها: [ ص: 119 ] لفي رأسي. قالت: فقالت: فديتك، إنما يقول: أيها الناس. قلت: ويحك، أولسنا من الناس؟ فلفت رأسها وقامت في حجرتها، فسمعته يقول: "أيها الناس، بينما أنا على الحوض جيء بكم زمرا فتفرقت بكم الطرق فناديتكم: ألا هلموا إلى الطريق، فناداني مناد من بعدي فقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فقلت: ألا سحقا، ألا سحقا ) [22] . لم تكن ترى أم سلمة أن الاهتمام بأمور المسلمين هو من خصائص الرجال فقط أو نخبة من الناس، بل قالت لماشطتها: أنهما - الماشـطة وأم سلمة - من الناس. ولم تقل لها: أولست أنا أم المؤمنين، وإذا أردنا أن نقارن هذا الأمر بواقعنا المعاصر تجلى بوضوح في أهمية متابعة أخبار المسلمين عن طريق الإعلام والمساجد.

          ويظهر اهتمامها بأمور المسلمين أيضا حينما استفسرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مصير فئة من المسلمين كانت تراها ستخسف ظلما، فرد عليها أنه لا ضرر على المكره. فعن الحسن عن أمه عن أم سلمة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ من منامه وهو يسترجع، قالت: قلت يا رسول الله، ما شأنك، قال: طائفة من أمتي يخسف بهم، ثم يبعثون إلى رجل، فيأتي مكة فيمنعه الله منهم، ويخسف بهم، مصرعهم واحد، ومصادرهم شتى. قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يكون مصرعهم واحدا ومصادرهم شتى؟ قال: إن منهم من يكره فيجيء مكرها ) [23] . [ ص: 120 ]

          لقد تجلى موقعها أيضا من خلال اهتمامها بأمور السياسة في مواقف عديدة، منها نصيحتها للمنتخبين، حيث دعت أم سلمة - كما جاء في رواية- أهـل العراق عـلى عدم الخروج عن صف الوحدة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بريء ممن نقض البيعة وخرج عن جماعة المسـلمين. وروي أن أم سلمة كتبت إلى أهـل العراق: "أن الله عز وجل برئ وبرئ رسـول الله ممن بايع وفـارق، فلا تفارقوا، والسلام" [24] .

          ولأم سلمة، رضي الله عنها، موقف سياسي آخر تمثل في معارضة الأمراء دون القتال مالم يجهروا بالكفر. فقد روت في مسألة سياسية خطيرة تتوقف عليها أرواح الناس، وتقنن لنظام المعارضة الخطير في الدولة. وروايتها في مثل هذه المسائل تدل على اهتمامها بها أيضا، وهذا ما يؤكد لنا اتساع دائرة اختصاصها. ورواية مثل هذه تسهم في صناعة القرار السياسي على أعلى مستوى. عن ضبة بن محصن عن أم سلمة قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع" قـالوا: أفلا نقاتلهـم؟ قال: (لا ما صلوا) ) [25] . لقد نقلت أم سلمة رواية تحفظ أمن البلد واستقراره السياسي.

          كما كان لأم سلمة موقف سياسي صريح أعلنت فيه إنكارها قتل الحسين. فعن شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء [ ص: 121 ] نعي الحسين بن علي لعنت أهل العراق، فقالت: "قتلوه، قتلهم الله، غروه وذلوه قتلهم الله.." [26] .

          لم يكن لأم المؤمنين أم سلمة أثر في المجال السياسي فحسب، بل كانت حريصة على أموال المسلمين. ويظهر ذلك في توجيهاتها لرجال أعمال بني عصرها. فلقد جاء عبد الرحمن بن عوف يستنصحها وهو آنذاك أكثر قريش مالا. والملاحظة الطريفة أنه لم يقل لها: أنا أغنى قرشي أو ما شابه ذلك، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ورع وتقوى السائل. المهم أنها نصحته في أن ينفق. عن شقيق عن أم سلمة قالت: "دخل عليها عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمه، قد خفت أن يهلكني كثرة مالي، أنا أكثر قريش مالا. قالت: يا بني فأنفق فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه ) فخرج فلقي عمر فأخبره. فجاء عمر فدخل عليها فقال لها: بالله منهم أنا؟ فقالت: لا ولن أبلي أحدا بعدك" [27] .

          وتجدر الإشارة إلى أن سيرة أم سلمة لم تحظ بالاهتمام الكافي من قبل الباحثين بمثل ما حظيت به سيرة السيدة عائشة، رضي الله عنها، على الرغم من أن أم سلمة عرفت بأنها كانت من فقهاء الصحابة، غير أن فقهها لم يصلنا على حد علمنا. [ ص: 122 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية