الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          10- أسماء بنت مرثد وموقعها النخبوي:

          أسماء بنت مرثد، رضي الله عنها، أخت بني حارثة بن جبير بن مالك بن حويرثة بن خارجة، وأمها سلامة بنت مسعود. تزوجها الضحاك بن خليفة، فولدت له ثابتا، وأبا بكر، وأبا حسن، وعمر، وثبيتة، وبكرة، وحمادة، وصفية، وتزوج محمد بن سلمة ثبيتة.. وأسلمت أسماء وبايعت [1] .

          فإلى جانب أنها روت عن الاستحاضة [2] فإن أهم ما ارتبط باسمها هو سبب نـزول الآيات الآتية: قال تعالى: ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه [ ص: 176 ] المؤمنون لعلكم تفلحون ) (النور:31) ، هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات، وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات. وكان سبب نـزول هـذه الآية ما ذكره مقاتل ابن حيان قال: "بلغنا، والله أعلم، أن جابر بن عبدالله الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة، وقيل كان لها نخل في بني حارثة يسمى الوعل، فجعلت النساء يدخلن عليها غير متزرات، فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء: ما أقبح هذا فأنـزل الله تعالى: ( وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ) الآية [3] .

          إن ارتباط نـزول هذه الآيات بأسماء بنت مرثد، رضي الله عنها، شيء عظيم جدا. لقد استجاب الله عز وجل لإنكارها تبرج النساء -إذا ثبت صحة هذه الرواية-، فشرع للنساء أحكاما خاصة فأمرهن الله عز وجل بغض البصر، وحفظ الفرج، وعدم إبداء زينتهن إلا لبعولتهن ومحارمهن، وفرض عليهن الحجاب. وهذه المسألة خاصة جدا بالنساء، ولها أثر كبير في وسط المجتمع. لقد أقر الله عز وجل رأيها، فتكون بذلك قد أسهمت بموقفها في نـزول تشريعات جديدة تخص مجال النساء بشكل مباشر. [ ص: 177 ]

          قال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ) (النور:58). عن مقاتل بن حبان قال: "بلغنا أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا طعاما، فجعل الناس يدخلون بغير إذن. فقالت أسماء: يا رسول الله، ما أقبح هذا، إنه ليدخل على المرأة وزوجها غلامهما وهما في ثوب واحد بغير إذن!؟ فنـزلت: ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ) إلى آخر الآية. ومما يدل على أنها محكمة أنها لم تنسخ قوله: ( كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ) [4] .

          وتسهم أسماء بنت مرثد، رضي الله عنها، مرة أخرى في نـزول أحكام تشريعية أخرى، خاصة بآداب الاستئدان. والملاحظة الأساسية حول هذا الموضوع هو أن إنكار أسماء دخول الغلمان على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد كان من الممكن أن يصدر من زوجها. غير أنها هي التي استنكرت، وهذا يدل على أن الصحابيات كن على وعي تام بموقعهن في صناعة الرأي العام، ونـزول التشريعات، ووعين جيدا استقلاليتهن في ذلك، فلم يكن هناك ناطق واحد باسم التشريع. [ ص: 178 ]

          لقد كانت الصحابية تسهم في نـزول التشريع جنبا إلى جنب مع أخيها الرجل. فهي ترى بعقلها وعينيها ما لا يرى، والعكس صحيح. لذلك لا يمكن أن يكون أي فقه يتميز بطابع الشمولية إذا لم يشترك الطرفان، الرجل والمرأة، مع بعضهما في صناعته.

          والملاحظة الثانية أنها لم تستنكر على أسرتها فقط حسب الصيغة التي تحدثت بها، فلقد رأت أن ذلك يضر باقي الأسر. فهي تعبر عن مسألة لا تهمها فقط، إنما تمس أي أسرة في المجتمع المسلم.

          ومما لا شك فيه أن هذه العينة التي اخترتها من الصحابيات تعد بمثابة نافذة، تبين لنا إسهامات عناصر نخبوية من النساء أدين أدوارهن جنبا إلى جنب مع إخوانهن الرجال في المجتمع. وحقيقة أن المصادر التي وقفت عندها لم توفر التفاصيل الكاملة عن الإسهامات التي قدمتها تلك النماذج النخبوية حتى نستكشف مدى فعالية إسهاماتهن في الفكر النخبوي. ولكن المعلومات التي أوردتها تكفي للتأصيل لموقع المرأة النخبوي في المجتمع الرسالي، وإثبات مدى أهمية وجدية هذا الموقع في الوسط النخبوي، الذي يعبر عن صوت المرأة إلى جانب أخيها الرجل لإنتاج فكر متوازن، يحقق المصلحة الحقيقية للمجتمع. كما أنه لا يمكن أن يستقيـم المجتمـع إذا لم تستقـم نخبته التي من المفروض أنها تسهر على توجيهه وحل معضلاته الفكرية الاجتماعية.

          غير أن من بين هذه العناصر النسوية حظيت السيدة عائشة، رضي الله عنها، بمادة معلوماتية وافرة، مقارنة بباقي المعلومات المتعلقة بغيرها من [ ص: 179 ] الصحابيات. لقد كان لعائشة، رضي الله عنها، دور بارز في الوسط الفكري والاجتماعي، خاصة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم . غير أن الذي يهمنا هنا هو لماذا تميزت السيدة عائشة عن باقي العناصر في إنتاجها الفكري والفقهي. فهل أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن تكون أنموذجا؟ ويجب على المجتمع أن يتولى إنتاج مثله باعتباره المستفيد الأول من وجود مثل هذا الأنموذج في المجتمع؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عليه لاحقا. [ ص: 180 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية