الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              157 [ 84 ] وعنه ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل ، ورجل بايع رجلا سلعة بعد العصر فحلف له بالله ، لأخذها بكذا وكذا ، فصدقه ، وهو على غير ذلك ، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا ; فإن أعطاه منها وفى ، وإن لم يعطه منها لم يف .

                                                                                              وفي رواية : ساوم رجلا بسلعة .

                                                                                              رواه أحمد ( 2 \ 253 ) ، والبخاري ( 2358 ) ، ومسلم ( 108 ) ، وأبو داود ( 3474 ) و ( 3475 ) ، والنسائي ( 7 \ 247 ) .

                                                                                              [ ص: 306 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 306 ] و (قوله : " ورجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل ") يعني بفضل الماء : ما فضل عن كفاية السابق للماء وأخذ حاجته منه ; فمن كان كذلك فمنع ما زاد على ذلك تعلق به هذا الوعيد .

                                                                                              وابن السبيل : هو المسافر ، والسبيل : الطريق ، وسمي المسافر بذلك ; لأن الطريق تبرزه وتظهره ، فكأنها ولدته ، وقيل : سمي بذلك ; لملازمته إياه ، كما يقال في الغراب : ابن دأية ; لملازمته دأية البعير الدبر لينقرها .

                                                                                              والفلاة : القفر ، وهذا هو الماء الذي قد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن منعه بقوله : لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ ، وسيأتي الكلام عليه . وقد أجمع المسلمون على تحريم ذلك ; لأنه منع ما لا حق له فيه من مستحقه ، وربما أتلفه أو أتلف ماله وبهائمه ، فلو منعه هذا الماء حتى مات عطشا قيد منه عند مالك ; لأنه قتله ، كما لو قتله بالجوع أو بالسلاح .

                                                                                              و (قوله : " ورجل بايع رجلا سلعة ") رويناه " سلعة " بغير باء ، ورويناه بالباء ; فعلى الباء : بايع بمعنى ساوم ; كما جاء في الرواية الأخرى : ساوم ، مكان بايع ، وتكون الباء بمعنى عن ; كما قال الشاعر :


                                                                                              فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب

                                                                                              [ ص: 307 ] أي : عن النساء . وعلى إسقاطها : يكون معنى بايع : باع ; فيتعدى بنفسه ، وسلعة : مفعول .

                                                                                              و (قوله : " فحلف له بالله ، لأخذها بكذا وكذا ") يعني : أنه كذب فزاد في الثمن الذي به اشترى ; فكذب واستخف باسم الله تعالى حين حلف به على الكذب ، وأخذ مال غيره ظلما ; فقد جمع بين كبائر ، فاستحق هذا الوعيد الشديد . وتخصيصه بما بعد العصر ، يدل على أن لهذا الوقت من الفضل والحرمة ما ليس لغيره من ساعات اليوم .

                                                                                              قال المؤلف - رحمه الله - : ويظهر لي أن يقال : إنما كان ذلك ; لأنه عقب الصلاة الوسطى - كما يأتي النص عليه - ولما كانت هذه الصلاة لها من الفضل وعظيم القدر أكثر مما لغيرها ، فينبغي لمصليها أن يظهر عليه عقبها من التحفظ على دينه ، والتحرز على إيمانه أكثر مما ينبغي له عقب غيرها ; لأن الصلاة حقها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر ; كما قال الله تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [ العنكبوت : 45 ] ، أي : تحمل على الامتناع عن ذلك ، مما يحدث في قلب المصلي بسببها من النور والانشراح ، والخوف من الله تعالى والحياء منه ; ولهذا أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، لم يزدد من الله إلا بعدا ، وإذا كان هذا في الصلوات كلها ، كانت الوسطى بذلك أولى ، وحقها في ذلك أكثر وأوفى ; فمن اجترأ بعدها على اليمين الغموس التي يأكل بها مال الغير ، كان إثمه أشد وقلبه أفسد ، والله تعالى أعلم .

                                                                                              وهذا الذي ظهر لي أولى مما قاله القاضي أبو الفضل ; فإنه قال : إنما كان [ ص: 308 ] ذلك لاجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار في ذلك الوقت ; لوجهين :

                                                                                              أحدهما : لأن هذا المعنى موجود في صلاة الفجر ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ثم يجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر ; وعلى هذا فتبطل خصوصية العصر ; لمساواة الفجر لها في ذلك .

                                                                                              وثانيهما : أن حضور الملائكة واجتماعهم إنما هو في حال فعل هاتين الصلاتين لا بعدهما ; كما قد نص عليه في الحديث حين قال : يجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، وتقول الملائكة : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون ، وهذا يدل دلالة واضحة على أن هؤلاء الملائكة لا يشاهدون من أعمال العباد إلا الصلوات فقط ، وبها يشهدون . فتدبر ما ذكرته ; فإنه الأنسب الأسلم ، والله أعلم .

                                                                                              و (قوله : " ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا ") إنما استحق هذا الوعيد الشديد ; لأنه لم يقم لله تعالى بما وجب عليه من البيعة الدينية ، فإنها من العبادات التي تجب فيها النية والإخلاص ، فإذا فعلها لغير الله تعالى من دنيا يقصدها ، أو غرض عاجل يقصده ، بقيت عهدتها عليه ; لأنه منافق مراء غاش للإمام والمسلمين ، غير ناصح في شيء من ذلك .

                                                                                              ومن كان هذا حاله ، كان مثيرا للفتن بين المسلمين ; بحيث يسفك دماءهم ، ويستبيح أموالهم ، ويهتك بلادهم ، ويسعى في إهلاكهم ; لأنه إنما يكون مع من بلغه إلى أغراضه ، فيبايعه لذلك وينصره ، ويغضب له ويقاتل مخالفه ، فينشأ من ذلك تلك المفاسد .

                                                                                              وقد تكون هذه المخالفة في بعض أغراضه ، فينكث بيعته ، ويطلب هلكته ، كما هو حال أهل أكثر [ ص: 309 ] هذه الأزمان ، فإنهم قد عمهم الغدر والخذلان .

                                                                                              و (قوله : " فإن أعطاه منها وفى ، وإن لم يعطه منها لم يف ") هكذا الرواية وفى بتخفيف الفاء ، و" يف " محذوف الواو والياء مخففا ، وهو الصحيح هنا رواية ومعنى ; لأنه يقال : وفى بعهده يفي وفاء ، والوفاء ممدود ضد الغدر ، ويقال : أوفى ، بمعنى : وفى ، وأما وفى المشدد الفاء ، فهي بمعنى توفية الحق وإعطائه ; يقال : وفاه حقه يوفيه توفية ; ومنه قوله تعالى : وإبراهيم الذي وفى [ النجم : 37 ] ، أي : قام بما كلفه من الأعمال ; كخصال الفطرة وغيرها ; كما قال الله تعالى : فأتمهن [ البقرة : 124 ] ، وحكى الجوهري : أوفاه حقه .

                                                                                              قال المؤلف - رحمه الله - : وعلى هذا وعلى ما تقدم ، فيكون أوفى بمعنى الوفاء بالعهد ، وتوفية الحق . والأصل في أوفى : أطل على الشيء ، وأشرف عليه .

                                                                                              و (قوله : " والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ") الرواية في المنفق : بفتح النون وكسر الفاء مشددة ، وهي مضاعف : نفق البيع ينفق نفاقا : إذا خرج ونفد ، وهو ضد كسد ، غير أن نفق المخفف لازم ، فإذا شدد ، عدي إلى المفعول ، ومفعوله هنا سلعة . وقد وصف الحلف وهي مؤنثة ، بالكاذب وهو وصف مذكر ، وكأنه ذهب بالحلف مذهب القول فذكره ، أو مذهب المصدر ، وهو مثل قولهم : أتاني كتابه فمزقتها ; ذهب بالكتاب مذهب الصحيفة ، والله تعالى أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية