الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              207 [ 113 ] وعنه ، قال : كنا عند عمر ، فقال : أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن ؟ فقال قوم : نحن سمعناه ، فقال : لعلكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره ؟ قالوا : أجل ، قال : تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة ، ولكن أيكم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن التي تموج موج البحر ؟ قال حذيفة : فأسكت القوم ، فقلت : أنا ، قال : أنت ؟ لله أبوك! قال حذيفة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، فأي قلب أشربها ، نكت فيه نكتة سوداء ، وأي قلب أنكرها ، نكت فيه نكتة بيضاء ، حتى تصير على قلبين : على أبيض مثل الصفا ، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض ، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا ; لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا ، إلا ما أشرب من هواه .

                                                                                              قال حذيفة : وحدثته أن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر ، قال عمر : أكسرا لا أبا لك! فلو أنه فتح لعله كان يعاد! قلت : لا بل يكسر ، وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت ، حديثا ليس بالأغاليط .

                                                                                              قال أبو خالد : فقلت لسعد : يا أبا مالك ، ما أسود مربادا ؟ قال : شدة البياض في سواد ، قال : قلت : فما الكوز مجخيا ؟ قال : منكوسا .

                                                                                              رواه أحمد ( 5 \ 405 ) ، ومسلم ( 144 ) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              و " أجل " بمعنى : نعم . و " تموج موج البحر " أي : تضطرب ويدفع بعضها بعضا ، وكل شيء اضطرب : فقد ماج ; ومنه : وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض [ الكهف : 99 ] . و " أسكت القوم " أي : أطرقوا ; قال الأصمعي : سكت القوم : صمتوا ، وأسكتوا : أطرقوا ، وقال أبو علي البغدادي وغيره : سكت وأسكت ، بمعنى : صمت .

                                                                                              قال الهروي : ويكون سكت بمعنى سكن ; ومنه : ولما سكت عن موسى الغضب [ الأعراف : 154 ] وبمعنى انقطع ; تقول العرب : جرى الوادي ثلاثا ، ثم سكت ، أي : انقطع ، ويقال : هو السكوت والسكات ، وسكت يسكت سكتا وسكوتا وسكاتا .

                                                                                              و (قوله : " كالحصير عودا عودا ") قيد ثلاث تقييدات ، قيده القاضي الشهيد : بفتح العين المهملة والذال المعجمة . وقيده أبو بحر سفيان بن العاصي : بضم العين ودال المهملة . واختار أبو الحسين بن سراج : فتح العين والدال المهملة . فمعنى التقييد الأول : سؤال الإعاذة ; كما يقال : غفرا غفرا ، أي : اللهم اغفر ، اللهم اغفر .

                                                                                              وأما التقييد الثاني ، فمعناه : أن الفتن تتوالى واحدة بعد أخرى ; كنسج [ ص: 359 ] الحصير عودا بإزاء عود ، وشطبة بإزاء شطبة ، أو كما يناول مهيئ القضبان للناسج عودا بعد عود .

                                                                                              وأما التقييد الثالث : فمعناه قريب من هذا ، يعني أن الفتنة كلما مضت ، عادت ; كما يفعل ناسج الحصير : كلما فرغ من موضع شطبة أو عود ، عاد إلى مثله . والمعنى الثاني أمكن وأليق بالتشبيه ، والله أعلم .

                                                                                              و " أشربها " أي : حلت فيه محل الشرب ; كقوله تعالى : وأشربوا في قلوبهم العجل [ البقرة : 93 ] أي : حبه .

                                                                                              و (قوله : " على قلبين : أبيض مثل الصفا " ) أي : قلب أبيض ، فحذف الموصوف للعلم به ، وأقام الصفة مقامه . وليس تشبيهه بالصفا من جهة بياضه ، ولكن من جهة صلابته على عقد الإيمان ، وسلامته من الخلل والفتن ; إذ لم يلصق به ولم يؤثر فيه ; كالصفا وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء ، بخلاف القلب الآخر الذي شبهه بالكوز الخاوي ; لأنه فارغ من الإيمان والأمانة .

                                                                                              و (قوله : " والآخر أسود مربادا ") قيد ثلاث تقييدات ; مرباد : مفعال ، من ارباد ; مثل مصفار من اصفار ; وهو رواية الخشني عن الطبري . ومربد : مثل مسود ومحمر ، من اربد واسود واحمر ; وهو تقييد أبي مروان بن سراج . ومربئد بالهمز ، قيده العذري ، وكأنه من اربأد لغة .

                                                                                              وقال بعض اللغويين : احمر الشيء ، فإذا قوي ، قيل : احمار ، فإذا زاد ، قيل : احمأر بالهمز ; فعلى هذا تكون تلك [ ص: 360 ] الروايات صوابا كلها . قال أبو عبيد ، عن أبي عمرو وغيره : الربدة : لون بين السواد والغبرة ، وقال ابن دريد : الربدة : الكدرة ، وقال الحربي : هو لون النعام ; بعضه أسود ، وبعضه أبيض ، ومنه : اربد لونه ; إذا تغير ودخله سواد ; وإنما سمي النعام ربدا ; لأن أعالي ريشها إلى السواد ، وقال نفطويه : المربد : الملمع بسواد وبياض ، ومنه : تربد لونه ، أي : تلون فصار كلون الرماد .

                                                                                              وقول سعد بن طارق لخالد الأحمر في تفسير مرباد : شدة البياض في سواد ، قال فيه القاضي أبو الوليد الكناني : هذا تصحيف ، وأرى صوابه : شبه البياض في سواد ; وذلك أن شدة البياض في سواد لا تسمى ربدة ، وإنما يقال لها : بلق ; إذا كان في الجسم ، وحور ; إذا كان في العين ، والربدة إنما هي شيء من بياض يسير يخالطه السواد ; كلون أكثر النعام .

                                                                                              و (قوله : " كالكوز مجخيا ") قال الهروي : المجخي : المائل ، وجخى : إذا فتح عضديه في السجود ، وكذلك : جخ ، وقال شمر : جخى في صلاته : إذا رفع بطنه عن الأرض في السجود ، وكذلك : خوى . وقال أبو عبيد : المجخى : المائل ، ولا [ ص: 361 ] أحسبه أراد بميله إلا أنه منخرق الأسفل ، شبه به القلب الذي لا يعي خيرا ولا يثبت فيه ، كما لا يثبت الماء في الكوز المنخرق .

                                                                                              قال المؤلف - رحمه الله - : ولا يحتاج إلى هذا التقدير والتكلف ; فإنه إذا كان مقلوبا منكوسا - كما قال سعد - لم يثبت فيه شيء وإن لم يكن منخرقا ، وقد فسره سياق الكلام ; حيث قال : لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا ، إلا ما أشرب من هواه .

                                                                                              و (قوله : " أكسرا لا أبا لك ! ") استعظام من عمر لكسر ذلك الباب ، وخوف منه ألا ينجبر ; لأن الكسر لا يكون إلا عن إكراه وغلبة ; فكأن الباب المغلق عن دخول الفتن على الإسلام : عمر - رضي الله عنه - ، وكسره قتله .

                                                                                              واللام في " لا أبا لك! " مقحمة ، وكذلك في قولهم : " لا يدي لفلان بهذا الأمر " ، ولا تريد العرب بهذا الكلام نفي الأبوة حقيقة ، وإنما هو كلام جرى على ألسنتهم كالمثل . ولقد أبدع البديع حيث قال في هذا المعنى :


                                                                                              وقد يوحش اللفظ وكله ود ويكره الشيء وما من فعله بد

                                                                                              هذه العرب تقول : " لا أبا لك " للشيء إذا أهم ، و " قاتله الله " ، ولا يريدون به الذم ، و " ويل أمه " للأمر إذا تم ، والإلباب في هذا الباب أن ينظر إلى القول وقائله ، فإن كان وليا فهو الولاء وإن خشن ، وإن كان عدوا فهو البلاء وإن حسن .

                                                                                              و (قوله : " حديثا ليس بالأغاليط ") أي : حدثته حديثا ، فهو مصدر . والأغاليط : جمع أغلوطة ; قال ابن دريد : هي التي يغالط بها ، واحدها : مغلطة وأغلوطة ، وجمعها : أغاليط .




                                                                                              الخدمات العلمية