الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قلت : فإن كان سماع القرآن مفيدا للوجد فما بالهم يجتمعون على سماع الغناء من القوالين دون القارئين ، فكان ينبغي أن يكون اجتماعهم وتواجدهم في حلق القراء لا حلق المغنين ، وكان ينبغي أن يطلب عند كل اجتماع في كل دعوة قارئ لا قوال فإن كلام الله تعالى أفضل من الغناء لا محالة فاعلم أن الغناء أشد تهييجا للوجد من القرآن من سبعة أوجه : .

الوجه الأول : أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له فمن استولى عليه حزن أو شوق أو ندم ، فمن أين يناسب حاله قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات وكذلك جميع الآيات التي فيها بيان أحكام الميراث والطلاق والحدود وغيرها ، وإنما المحرك لما في القلب ما يناسبه .

والأبيات إنما يضعها الشعراء إعرابا بها عن أحوال القلب ، فلا يحتاج في فهم الحال منها إلى تكلف .

نعم من يستولي عليه حالة غالبة قاهرة لم تبق فيه متسعا لغيرها ومعه تيقظ وذكاء ثاقب يتفطن به للمعاني البعيدة من الألفاظ ، فقد يخرج وجده على كل مسموع كمن يخطر له عند ذكر قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم حالة الموت المحوج إلى الوصية وأن ، كل إنسان لا بد أن يخلف ماله وولده ، وهما محبوباه من الدنيا فيترك أحد المحبوبين للثاني ويهجرهما جميعا فيغلب عليه الخوف والجزع أو يسمع ذكر الله في قوله : يوصيكم الله في أولادكم فيدهش بمجرد الاسم عما قبله وبعده أو يخطر له رحمة الله على عباده وشفقته بأن تولى قسم مواريثهم بنفسه نظرا لهم في حياتهم وموتهم ، فيقول : إذا نظر لأولادنا بعد موتنا فلا نشك بأنه ينظر لنا فيهيج منه حال الرجاء ويورثه ذلك استبشارا وسرورا أو يخطر له من قوله تعالى : للذكر مثل حظ الأنثيين تفضيل الذكر بكونه رجلا على الأنثى وأن الفضل في الآخرة لرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .

وأن ، من ألهاه غير الله تعالى عن الله تعالى فهو من الإناث لا من الرجال تحقيقا فيخشى أن يحجب أو يؤخر في نعيم الآخرة كما أخرت الأنثى في أموال الدنيا .

فأمثال هذا قد يحرك الوجد ولكن لمن فيه وصفان : .

أحدهما : حالة غالبة مستغرقة قاهرة .

والآخر : تفطن بليغ وتيقظ بالغ كامل للتنبيه بالأمور القريبة على المعاني البعيدة وذلك مما يعز فلأجل ذلك يفزع إلى الغناء الذي هو ألفاظ مناسبة للأحوال حتى يتسارع هيجانها .

وروي أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوى فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت ثم رفع رأسه وأنشدهم .


رب ورقاء هتوف في الضحى ذات شجو صدحت في فنن     ذكرت إلفا ودهرا صالحا
وبكت حزنا فهاجت حزني     فبكائي ربما أرقها
وبكاها ربما أرقني     ولقد أشكو فما أفهمها
ولقد تشكو فما تفهمني     غير أني بالجوى أعرفها
وهي أيضا بالجوى تعرفني

قال : فما بقي أحد من القوم إلا قام وتواجد ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم الذي خاضوا فيه وإن كان العلم جدا وحقا. .

الوجه الثاني : أن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب وكلما ، سمع أولا عظم أثره في القلوب وفي الكرة الثانية يضعف أثره وفي الثالثة يكاد يسقط أثره .

ولو كلف صاحب الوجد الغالب أن يحضر وجده على بيت واحد على الدوام في مرات متقاربة في الزمان في يوم أو أسبوع لم يمكنه ذلك .

ولو أبدل ببيت آخر لتجدد له أثر في قلبه وإن كان معربا عن عين ذلك المعنى .

ولكن كون النظم واللفظ غريبا بالإضافة إلى الأولى يحرك النفس وإن كان المعنى واحدا .

وليس يقدر القارئ على أن يقرأ قرآنا غريبا في كل وقت ودعوة فإن القرآن محصور لا يمكن الزيادة عليه وكله محفوظ متكرر ، وإلى ما ذكرناه أشار الصديق رضي الله عنه حيث رأى الأعراب يقدمون فيسمعون القرآن ويبكون فقال : كنا كما كنتم ولكن قست قلوبنا ولا تظنن أن قلب الصديق رضي الله عنه كان أقسى من قلوب الأجلاف من العرب وأنه ، كان أخلى عن حب الله تعالى وحب كلامه من قلوبهم ولكن التكرار على قلبه اقتضى المرون عليه وقلة التأثر به لما حصل له من الأنس بكثرة استماعه إذ محال في العادات أن يسمع السامع آية لم يسمعها قبل فيبكي ثم يدوم على بكائه عليها عشرين سنة ، ثم يرددها ويبكي ولا يفارق الأول الآخر إلا في كونه غريبا جديدا ، ولكل جديد لذة ولكل طارئ صدمة ومع كل مألوف أنس يناقض الصدمة .

ولذا هم عمر رضي الله عنه أن يمنع الناس من كثرة الطواف ، وقال : قد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت أي : يأنسوا به.

ومن قدم حاجا فرأى البيت أولا بكى وزعق ، وربما غشي عليه إذ وقع عليه بصره ، وقد يقيم بمكة شهرا ولا يحس من ذلك في نفسه بأثر فإذا المغني يقدر على الأبيات الغريبة في كل وقت ولا يقدر في كل وقت على آية غريبة .

الوجه الثالث : أن لوزن الكلام بذوق الشعر تأثيرا في النفس ، فليس الصوت الموزون الطيب كالصوت الطيب الذي ليس بموزون ، وإنما يوجد الوزن في الشعر دون الآيات ولو زحف المغني البيت الذي ينشده أو لحن فيه أو مال عن حد تلك الطريقة في اللحن لاضطرب قلب المستمع وبطل وجده وسماعه ، ونفر طبعه لعدم المناسبة .

وإذا نفر الطبع اضطرب القلب وتشوش ، فالوزن إذن مؤثر فلذلك طاب الشعر .

الوجه الرابع أن : الشعر الموزون يختلف تأثيره في النفس بالألحان التي تسمى الطرق والدستانات وإنما اختلاف تلك الطرق بمد المقصور وقصر المدود والوقف في أثناء الكلمات والقطع والوصل في بعضها .

وهذا التصرف جائز في الشعر ولا يجوز في القرآن إلا التلاوة كما أنزل فقصره ومده والوقف والوصل والقطع فيه على خلاف ما تقضيه التلاوة حرام أو مكروه .

وإذا رتل القرآن كما أنزل سقط عنه الأثر الذي سببه وزن الألحان ، وهو سبب مستقل بالتأثير ، وإن لم يكن مفهوما كما في الأوتار والمزمار والشاهين وسائر الأصوات التي لا تفهم .

الوجه الخامس أن : الألحان الموزونة تعضد وتؤكد بإيقاعات وأصوات أخر موزونة خارج الحلق كالضرب بالقضيب والدف وغيره لأن الوجد الضعيف لا يستثار إلا بسبب قوي وإنما يقوى بمجموع هذه الأسباب ، ولكل واحد منها حظ في التأثير وواجب أن يصان القرآن عن مثل هذه القرائن؛ لأن صورتها عند عامة الخلق صورة اللهو واللعب ، والقرآن جد كله عند كافة الخلق فلا يجوز أن يمزج بالحق المحض ما هو لهو عند العامة وصورته صورة اللهو عند الخاصة ، وإن كانوا لا ينظرون إليها من حيث إنها لهو بل ينبغي أن يوقر القرآن فلا يقرأ على شوارع الطرق بل في مجلس ساكن ولا في حال الجنابة .

ولا على غير طهارة ولا يقدر على الوفاء بحق حرمة القرآن في كل حال إلا المراقبون لأحوالهم فيعدل إلى الغناء الذي لا يستحق هذه المراقبة والمراعاة ، ولذلك لا يجوز الضرب بالدف مع قراءة القرآن ليلة العرس .

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب الدف في العرس فقال : أظهروا النكاح ولو بضرب الغربال .

أو بلفظ هذا معناه وذلك جائز مع الشعر دون القرآن .

ولذلك لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت الربيع بنت معوذ وعندها جوار فسمع إحداهن تقول : وفينا نبي يعلم ما في غد. .

على وجه الغناء فقال صلى الله عليه وسلم : دعي هذا وقولي ما كنت تقولين .

وهذه شهادة بالنبوة فزجرها عنها وردها إلى الغناء الذي هو لهو ; لأن هذا جد محض فلا يقرن بصورة اللهو .

فإذا يتعذر بسببه تقوية الأسباب التي بها يصير السماع محركا للقلب فواجب في الاحترام العدول إلى الغناء عن القرآن كما وجب على تلك الجارية العدول عن شهادة النبوة إلى الغناء .

التالي السابق


(فإن قلت: فإن كان سماع القرآن مفيدا للوجد) كما ذكرت (فما بالهم يجتمعون على سماع الغناء من القوالين) والمغنين (دون القارئين، فكان ينبغي أن يكون اجتماعهم وتواجدهم في حلق القراء لا حلق المغنين، وكان ينبغي أن يطلب عند كل اجتماع في كل دعوة قارئ) للقرآن (لا قوال) من المنشدين، (فإن كلام الله عز وجل أفضل من الغناء لا محالة) بل ولا نسبة بينهما، (فاعلم أن الغناء) من حيث هو هو (أشد تهييجا) وأكثر إثارة (للوجد) في القلب (من القرآن من سبعة أوجه: الوجه الأول: أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له) ومخالط به (ممن استولى عليه حزن أو شوق أو ندم، فمن أين يناسب حاله قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) الآية (وقوله تعالى: والذين يرمون المحصنات ) الآية [ ص: 555 ] (وكذلك جميع الآيات التي فيها بيان أحكام الميراث) والعدة (والطلاق والحدود وغيرها، وإنما المحرك لما في القلب ما يناسبه، والأبيات إنما نظمها الشعراء إعرابا) أي: إظهارا (بها عن أحوال القلب، فلا يحتاج في فهم الحال منها إلى تكلف) لإثارة وجد .

(نعم من تستولي عليه حالة غالبة قاهرة) ، وفي بعض النسخ: من يستولي عليه حال غلبة قاهرة، (ولم يبق فيه متسعا لغيره) وفي نسخة: لم تبق فيه متسعا لغيرها، (ومعه) مع ذلك (تيقظ وذكاء ثابت يتفطن به) أي: بذلك الذكاء (للمعاني البعيدة) الغور (من الألفاظ، فقد يخطر وجده على كل مسموع) بل كل ناطقة في الكون تطربه (كمن يخطر له عن ذكر قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم حالة الموت المحوج للوصية، وإن كل إنسان لا بد له أن يخاف ماله وولده، وهما محبوباه من الدنيا) بالحب الاضطراري، (فيترك أحد المحبوبين) الذي هو المال (للثاني) الذي هو الولد (ويهجرهما جميعا فيغلب عليه) بفهم ذلك (أخوف) من العواقب (والجزع) على الفوائت (أو يسمع ذكر) كلمة (الله في قوله: يوصيكم الله فيدهشه مجرد) ذكر الاسم (عما قبله وبعده) ، فلا يخطر له بباله شيء سواه، (أو يخطر له) عند ذلك ذكر (رحمة الله على عباده وشفقته) عليهم (بأن تولى قسم مواريثهم بنفسه نظرا إليهم في حياتهم وموتهم، فيقول: إذا نظر لأولادنا بعد موتنا فلا نشك بأنه ينظر لنا فيهيج منه حال الرجاء) في -رحمة الله تعالى- الواسعة (ويورث ذلك استبشارا أو سرورا) وفرحا عظيما .

(ويخطر له من قوله تعالى: للذكر مثل حظ الأنثيين تفضيل الذكر بكونه رجلا على الأنثى) ويخطر له في أثناء ذلك (أن الفضل في الآخرة لرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وإن من ألهاه) أي: شغله (غير الله تعالى) وأخلد إلى الحظ الفاني، (فهو من الإناث لا من الرجال تحقيقا فيخشى أن يحجب) من الإرث المعنوي، (أو يؤخر في نعيم الآخرة كما أخر في أموال الدنيا) ، وفي نسخة: كما أخرت الأنثى في أموال الدنيا .

(فأمثال هذا قد يحرك الوجد) في القلب، (ولكن لمن فيه وصفان: أحدهما: حالة غالبة مستغرقة قاهرة، والآخر: تفطن بليغ وتيقظ كامل للتنبيه بالأمور القريبة المأخذ على المعاني البعيدة) فهمها من ظاهر الألفاظ (وذلك مما يعز) وجوده، (فلأجل ذلك يفزع إلى الغناء الذي هو ألفاظ مناسبة للأحوال حتى يتسارع هيجانها، وروي أنه كان أبو الحسين) أحمد بن محمد (النوري) -رحمه الله- تعالى (مع جماعة في دعوة) طعام (فجرى بينهم) ذكر (مسألة في العلم) وتفاوضوا فيها، (وأبو الحسين ساكت) لا يتكلم (ثم رفع رأسه وأنشدهم) قول الشاعر:


(رب ورقاء هتوف في الضحى ذات شجو صدحت في فنن)



أي: رب حمامة يقال: حمامة ورقاء والاسم الورقة بالضم مثال الحمرة، وهتوف كثيرة الصوت، يقال: هتفت الحمامة إذا صوتت، والشجو: الحزن، وصدحت: صوتت والفنن محركة: الغصن الناعم:


(وذكرت إلفا ودهرا صالحا فبكت حزنا فهاجت حزني)

الإلف بالكسر الأليف هو من يألفه، ودهرا صالحا أي: زمانا مضى كان صالحا، والاجتماع والحزن بالضم: الغم، وهاجت: أثارت، والحزن محركة: بمعنى الحزن بالضم لغة فيه

(فبكائي بما أرقها وبكاها ربما أرقني)

وأرقها تأريقا: أشجاها، والأرق محركة: اللوعة والرقة، وأرقني: أشجاني [ ص: 556 ]

(ولقد أشكو فما أفهمها ولقد تشكو فما تفهمني)

أي: أشكو من مفارقة ذلك الإلف فما أطيق أن أفهمها ما عندي من الشكوى وهي أيضا تشكو من فراق إلفها فلا تطيق أن تفهمني ما عندها من الوجد والشكوى والحزن

(غير أني بالجوى أعرفها وهي أيضا بالجوى تعرفني)

الجوى: وجد الباطن وحرقته .

(قال: فما بقي أحد من القوم إلا قام) قائما (وتواجد ولم يحصل لهم هذا الوجد من) مذاكرة (العلم الذي خاضوا فيه وإن كان العلم جدا وحقا .

الوجه الثاني: أن القرآن محفوظ للأكثرين) في صدورهم (ومتكرر على الأسماع والقلوب، وكل ما سمع أوله) أي: في أول مرة (عظم أثره في القلب) حتى يمتلئ هيبة وجلالة، (وفي الكرة الثانية يضعف أثره في القلب و) في الكرة الثانية (يكاد يسقط أثره) من القلب، (ولو كلف صاحب الوجد الغالب أن يحضر وجده على) سماع (بيت واحد على الدوام في مرات متقاربة في الزمان في يوم أو أسبوع لم يمكنه ذلك) أي: لم يدم له ذلك الوجد، (ولو أبدل ببيت آخر لتجدد له أثر) في قلبه، (وإن كان) ذلك البيت (معربا) أي مفصحا (عن عين ذلك المعنى) المفهوم من البيت الأول، (ولكن كون النظم واللفظ غريبا بالإضافة إلى الأول يحرك النفس) ويزيدها هيجانا، (وإن كان المعنى لا يمكن الزيادة عليه وكله محفوظ متكرر، وإلى ما ذكرناه إشارة) أبي بكر (الصديق -رضي الله عنه- حيث رأى) طائفة (الأعراب) من سكان البوادي (يقدمون) المدينة (فيسمعون القرآن ويبكون فقال: كنا كما كنتم ولكن قست قلوبنا) أي: ثبتت، أخرجه أبو نعيم في الحلية .

(ولا تظنن) أيها السامع (أن قلب الصديق -رضي الله عنه- كان أقسى من قلوب الأجلاف من العرب، وأنه كان أخلى) أي: أكثر خلوا (من حب الله تعالى وحب كلامه من قلوبهم) أي: أولئك الأجلاف (ولكن التكرار على قلبه اقتضى المرون عليه) أي: التعود عليه (وقلة التأثر لما حصل له من الأنس بكثرة استماعه إذ محال في العادة) الجارية (أن يسمع السامع آية لم يسمعها قبل فيبكي ثم يدوم عليه عشرين سنة، ثم يرددها ويبكي ولا يفارق الأول الآخر إلا في كونه غريبا جديدا، ولكل جديد لذة) كما أن لكل قديم هجرانا، (ولكل قارئ صدمة) على القلب، (ومع كل مألوف أنس يناقض الصدمة) وقد قرره المصنف على وجه آخر يأتي بيانه في ذكر الأدب الثالث من آداب السماع قريبا .

(ولهذا هم عمر -رضي الله عنه- أن يمنع الناس من كثرة الطواف، وقال: قد خشيت أن يأبس الناس بهذا البيت أي: يأنسوا به) يقال: أبس به بالموحدة كفرح إذا ألفه وآنسه (ومن قدم حاجا فرأى البيت أولا بكى وزعق، وربما غشي عليه إذا وقع عليه بصره، وقد يقيم بمكة شهرا ولا يحس من ذلك في نفسه تأثيرا) ، وكل هذا يقرب البعض من البعض في المعنى لمن عرف الإشارة فيه وفهم وهو عزيز الفهم عزيز الوجود، (فإذا المغني يقدر على الأبيات الغريبة) أن ينشدها (في كل وقت ولا يقدر على ذلك في الآيات) القرآنية وهو ظاهر، والله أعلم .

(الوجه الثالث: أن لوزن الكلام بذوق الشعر تأثيرا) غريبا (في النفس، فليس الصوت الموزون) بالأوزان الشعرية (الطيب) بحسن النغمات [ ص: 557 ] (كالصوت الطيب) اللذيذ (الذي ليس بموزون، وإنما يوجد الوزن في الشعر دون الآيات) ، وما وجد في بعضها أحيانا اتفاقا فهو نادر، فقد استخرج بعض القدماء للبحور الستة عشر آيات مناسبة للوزن وتتبعهم المتأخرون فاستنبطوا كذلك آيات، ولكن لا حكم لذلك والقرآن معجز للبشر ولم يقصد فيه الوزن .

(ولو زحف المغني البيت الذي ينشده أو لحن فيه) بأن غير إعرابه وأزاله عن جهته، (أو مال عن حد تلك الطريقة في اللحن لما طرب قلب المستمع وبطل وجده وسماعه، ونفر طبعه لعدم المناسبة، وإذا نفر الطبع اضطرب القلب وتشوش، فالوزن إذا مؤثر فلذلك طاب الشعر) ومالت إليه النفوس البشرية .

(الوجه الرابع: إن الشعر الموزون يختلف تأثيره في النفس بالألحان التي تسمى الطرق والدستنيات) ، وفي بعض النسخ: الرستيانات، وهي لفظة عجمية، (وإنما اختلاف تلك الطرق بمد المقصور وقصر الممدود والوقف أثناء الكلمات والقطع والوصل في بعضها، وهذا التصرف جائز في الشعر) بالاتفاق، (ولا يجوز في القرآن إلا التلاوة كما أنزل) وتلقفه الخلف عن السلف، (فقصره ومده والوقف والوصل والقطع فيه على خلاف ما تقتضيه التلاوة) والتجويد (حرام ومكروه) صرح به أئمة هذا الشأن، (وإذا رتل القرآن كما أنزل سقط عنه الأثر الذي سببه وزن الألحان، وهو سبب مستقل التأثير، وإن لم يكن مفهوما كما في الأوتار والشاهين وسائر الأصوات التي لا تفهم) .

(الوجه الخامس: إن الألحان الموزونة تعضد) أي: تقوى (وتوله بإيقاعات وأصوات أخر موزونة خارج الحلق كالضرب بالقضيب والدف وغيره) ، ويقال لهذا الميزان: دم تك، وقد رأيت كتابا موسوما كذلك نحو عشرين كراسا في قطع الكامل في بيان هذه الأوزان فمن لم يتقنها ليس له في وزن الألحان كمال؛ (لأن الوجد الضعيف لا يستثار) من مكانه (إلا بسبب قوي) وسبب ضعفه سذاجة القلب وبلادة الطبع واستحكام الشواغل الفكرية أو رداءة المزاج، (وإنما يقوى بمجموع هذه الأسباب، ولكل واحد منها حظ في التأثير) في النفوس، (وواجب أن يصان القرآن) ويحفظ ( عن مثل هذه القرائن؛ لأن صورتها عند عامة الخلق صورة اللهو واللعب، والقرآن جد كله عند كافة الخلق) مصون من الهزل، (فلا يجوز أن يمزج الحق المحض بما هو لهو عند العامة) ، وفي بعض النسخ: بالحق المحض ما هو لهو عند العامة، (وصورتها صورة اللهو عند الخاصة، وإن كانوا لا ينظرون إليها من حيث أنها لهو) ، بل يلاحظون فيها معنى آخر وراء ذلك .

(بل ينبغي أن يوقر القرآن) على كل حال، (فلا يقرأ على شوراع الطرق) ولا في المزابل والمجاز، ولا حيث تكشف العورات، (بل في مجلس ساكن) لا يشتغل أهله بشيء سوى سماعه، (ولا) يقرأ أيضا (في حال الجنابة ولا على غير طهارة) بل يستاك ويتخلل ويطيب فاه إذ هو طريق القرآن، وله مع ذلك آداب منها: أن يستوي قاعدا إن كان في غير الصلاة فلا يكون متكئا، ومنها: أن يستقبل القبلة عند قرءاته، وإذا تثاءب تمسك عن القرآن، وأن يقرأ على تؤدة وترتيل وغير ذلك مما تقدم بعضها في آداب تلاوة القرآن، (ولا يقدر على الوفاء بحق حرمة القرآن في كل حال) ولا يقدر على ذلك إلا المراقبون لأحوالهم، (فيعدل إلى الغناء الذي لا يستحق هذه المراقبة والمراعاة، ولذلك لا يجوز الضرب بالدف مع القرآن ليلة العرس) أي: الزفاف، (وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بضرب الدف في العرس، وقال: أظهروا النكاح ولو بضرب الغربال أو لفظ هذا معناه) ، رواه ابن ماجه في سننه فقال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي والخليل بن عمرو [ ص: 558 ] قالا: حدثنا عيسى بن يونس عن خالد بن إلياس، عن ربيعة بن عبد الرحمن، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالغربال. خالد بن إلياس ضعيف، وقال الترمذي: حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا عيسى بن ميمون عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف. قال الترمذي: حديث حسن غريب، وميمون يضعف في الحديث .

قلت: والحديث ثابت في أصله ولو كان خالد وميمون ضعيفين، وفي الباب عن جماعة، وقد تقدم ذكر هذا الحديث في كتاب النكاح .

(وكذلك لما دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيت الربيع) بالتصغير مشددا (بنت معوذ) بن عفراء الأنصارية بايعت تحت الشجرة وتأخرت وفاتها، (وعندها جوار يغنين فسمع إحداهن تقول: وفينا نبي يعلم ما في غد. على وجه الغناء) ، وفي نسخة: على معرض الغناء، (فقال -صلى الله عليه وسلم-: دعي هذا) أي: اتركي هذا الكلام، (وقولي ما كنت تقولينه) . أخرجه البخاري في باب الضرب بالدف في النكاح، قالت: جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخل حين بنى علي فجلس على فراشي كمجلسك مني فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر قالت إحداهن: "وفينا نبي يعلم ما في غد"، فقال - صلى الله عليه وسلم-: دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين. وأخرجه الترمذي وأبو داود، وقال: حسن صحيح، وقال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن أبي الحسين، واسمه خالد المدائني قال: كنا بالمدينة يوم عاشوراء، والجواري يضربن بالدف ويتغنين فدخلنا على الربيع بنت معوذ فذكرنا ذلك لها، فقالت: دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صبيحة عرسي وعندي جاريتان تغنيان وتندبان آبائي الذين قتلوا يوم بدر وتقولان فيما تقولان: "وفينا نبي يعلم ما في غد"، فقال: أما هذا فلا تقولاه، لا يعلم ما في غد إلا الله، وقد تقدم الحديث في كتاب النكاح .

(وهذه شهادة بالنبوة) وهو قولها: وفينا نبي (فزجرها عنها وردها إلى الغناء الذي هو لهو; لأن هذا جد محض) يعني الإقرار بالنبوة، (فلا يقرن بصورة اللهو) ، وفي نسخة: بصورة الهزال، (فإذا يتعذر بسببه تقوية هذه الأسباب التي بها يصير السماع محركا للقلب فواجب في الاحترام العدول إلى الغناء عن القرآن كما وجب على تلك الجارية العدول عن شهادة النبوة إلى الغناء) ، ولكن لا يتم هذا إلا إذا كان نهيه -صلى الله عليه وسلم- متوجها لذلك، والظاهر من سياق ابن ماجه كما تقدم أن النهي توجه لقولهما: يعلم ما في غد، وكذلك بقوله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولهذا النظر يسقط الاحتجاج بالوجه الخامس، فتأمل ذلك .




الخدمات العلمية