الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قيل : لبعض الأدباء كيف حفظك للسر ؟ قال : أنا قبره .

وقد قيل : صدور الأحرار قبور الأسرار .

وقيل : إن قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه أي لا يستطيع الأحمق إخفاء ما في نفسه فيبديه من حيث لا يدري به .

فمن هذا يجب مقاطعة الحمقى والتوقي عن صحبتهم بل عن مشاهدتهم .

وقد قيل لآخر .

: كيف تحفظ السر قال ؟ : أجحد المخبر وأحلف للمستخبر .

وقال آخر وأستر أني أستره وعبر عنه ابن المعتز فقال .


ومستودعي سرا تبوأت كتمه فأودعته صدري فصار له قبرا

، وقال آخر : وأراد الزيادة عليه .


وما السر في صدري كثاو بقبره     لأني أرى المقبور ينتظر النشرا
ولكنني أنساه حتى كأنني     بما كان منه لم أحط ساعة خبرا
ولو جاز كتم السر بيني وبينه     عن السر والأحشاء لم تعلم السرا

وأفشى بعضهم سرا له إلى أخيه ثم قال له : حفظت ، فقال : بل نسيت .

وكان أبو سعيد الثوري يقول : إذا أردت أن تواخي رجلا فأغضبه ثم دس عليه من يسأله عنك وعن أسرارك فإن قال خيرا وكتم سرك فاصحبه .

وقيل : لأبي يزيد من تصحب من الناس قال ؟ : من يعلم منك ما يعلم الله ثم يستر عليك كما يستره الله .

وقال ذو النون لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصوما ومن أفشى السر عند الغضب ، فهو اللئيم لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها .

وقد قال بعض الحكماء :

لا تصحب من يتغير عليك عند أربع : عند غضبه ورضاه وعند طمعه وهواه .

بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتا على اختلاف هذه الأحوال ولذلك قيل .


وترى الكريم إذا تصرم وصله     يخفي القبيح ويظهر الإحسانا
وترى اللئيم إذا تقضى وصله     يخفي الجميل ويظهر البهتانا

وقال العباس لابنه عبد الله إني أرى هذا الرجل يعني عمر رضي الله عنه يقدمك على الأشياخ فاحفظ عني خمسا لا تفشين له سرا ولا تغتابن عنده أحدا ولا تجربن عليه كذبا ولا تعصين له أمرا ولا يطلعن منك على خيانة فقال ، الشعبي : كل كلمة من هذه الخمس خير من ألف .

التالي السابق


(وقيل: لبعض الأدباء كيف حفظك للسر؟ قال: أنا قبره) كذا في القوت أي: أنا أكتمه كما يكتم القبر على الميت (وقد قيل: صدور الأحرار قبور الأسرار) هو قول مشهور على ألسنة الناس (وقيل: إن قلب الأحمق في فيه) أي: فمه (ولسان العاقل في قلبه) وهذا أيضا مشهور من قول الحكماء، وقد نظموا هذا المعنى في أبيات مشهورة (أي لا يستطيع الأحمق إخفاء ما في نفسه فيبديه للناس من حيث لا يدري به) أي: لا يدري طرق المضرة فيه (فمن هاهنا تجب مقاطعة الحمقى) والبعد عنهم (والتوقي عن صحبتهم) وعشرتهم (بل عن مشاهدتهم) فإنه ضرر صرف .

(وقد قيل للآخر: كيف حفظك للسر؟ فقال: أجحد الخبر) أي: أنكر معرفته (وأحلف للمستخبر) نقله صاحب القوت .

(وقال آخر) وقد سئل عن حفظ السر فقال: (أستره وأستر أني أستره وعبر عنه ابن المعتز فقال) هو المنتصر بالله عبد الله بن المعتز بالله أبي عبد الله محمد بن المتوكل بن المعتصم ابن هارون الرشيد العباسي الشاعر المطلق، ووالده ثالث عشر خليفة، ولفظ القوت: ومن أحسن ما سمعت في حفظ السر ما حدثني بعض أشياخنا من إخوان له دخلوا على عبد الله بن المعتز فاستنشده شيئا من شعره في حفظ السر فأنشدهم على البديهة .


(ومستودعي سرا تبوأت كتمه فأودعته صدري فكان له)



ولفظ القوت: فصار له (قبرا، وقال آخر: وأراد الزيادة عليه) ، ولفظ القوت: فخرجنا من عنده فاستقبلنا محمد بن داود الأصبهاني؛ فسألنا: من أين جئنا؟ فأخبرناه بما أنشدنا ابن المعتز في السر، فاستوقفنا ثم أطرق مليا، قال: اسمعوا قولي


( وما السر في صدري كثاو بقبره لأني أرى المقبور ينتظر النشرا
ولكنني أنساه حتى كأنني بما كان منه لم أحط ساعة خبرا
ولو جاز كتم السر بيني وبينه عن السر والأحشاء لم تعلم السرا



وأفشى بعضهم سرا إلى أخيه ثم قال له: حفظت، فقال: بل نسيت) كذا في القوت (وكان أبو سعيد الثوري) هو سفيان بن سعيد، والكنية المشهور بها أبو عبد الله، وعليها اقتصر المزني في تهذيب الكمال (يقول: إذا أردت أن تواخي رجلا) أي: تعتقد بينك وبينه عقدة أخوة (فأغضبه ثم دس عليه من يسأله عنك وعن [ ص: 218 ] أسرارك إن قال خيرا وكتم سرك فاصحبه) نقله صاحب القوت غير قوله: وعن أسرارك وكتم سرك، وزاد: وقال غيره: لا تؤاخ أحدا حتى تبلوه وتفشي إليه سرا ثم اجفه واستغضبه وانظر فإن أفشاه عليك فاجتنبه .

(وقيل: لأبي يزيد) طيفور بن عيسى البسطامي قدس سره (من أصحب من الناس؟ فقال: من يعلم منك ما يعلم الله) عز وجل (ثم يستر عليك كما يستر الله) عز وجل كذا في القوت .

(وقال ذو النون) المصري قدس سره: (لا خير) لك (فى صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصوما) كذا في القوت؛ أي: مبرأ من العيوب، وهذا لا يتفق (ومن أفشى السر عند الغضب، فهو لئيم لأن إخفاءه عند الرضا تفضيه الطباع السليمة كلها) وإنما محل الامتحان عند الغضب فإفشاؤه عنده من علامات اللؤم وخبث الطبع وسوء السريرة .

(وقد قال بعض الحكماء: لا تصحب من يتغير عليك عند أربع: عند غضبه ورضاه وعند طعمه وهواه) كذا في القوت؛ أي: فليكن حاله عند غضبه كحاله في رضاه وحاله عند طعمه كحاله عند هواه وإليه أشار بقوله: (بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتا على اختلاف هذه الأحوال) كيفما تحولت (ولذلك قيل)


(وترى الكريم إذا تصرم وصله يخفي القبيح ويظهر الإحسانا
وترى اللئيم إذا تقضى وصله يخفي الجميل ويظهر البهتانا)



هكذا هو في القوت، وقد تقدم ذلك قريبا .

(وقال العباس) بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي -رضي الله عنه- عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أصغر أعمامه، توفي سنة اثنتين وثلاثين عن ثمان وثمانين، وقد كف بصره، وقال المدني: يكنى أبا الفضل، قال الزبير بن بكار: كان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، روى له الجماعة (لابنه عبد الله) هو الحبر ترجمان القرآن -رضي الله عنه- (إني أرى هذا الرجل يعني عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (يقدمك على الأشياخ) ويقربك وذلك (فاحفظ منه خمسا) وفي رواية ثلاثا (لا تفشين له سرا ولا تغتابن عنده أحدا ولا يجربن عليك كذبا) فهذه الثلاثة وزاد في بعض الروايات (ولا تعصين له أمرا ولا يطلعن منك على خيانة، وقال الشعبي:) لفظ القوت: قال وقلت للشعبي وقد رواه (كل كلمة من هذه الخمس خير من ألف) قال: كل كلمة خير من عشرة آلاف. هذا لفظ القوت .

وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا محمد بن الحسن بن كيسان، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا علي بن المديني، حدثني أبو أسامة، حدثني مجالد، حدثنا عامر الشعبي، عن ابن عباس قال: قال لي أبي: أي بني أرى أمير المؤمنين يقربك ويدعوك ويستشيرك مع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحفظ مني ثلاث خصال: اتق لا يجربن عليك كذبا، ولا تفش له سرا، ولا تغتابن عنده أحدا. قال عامر الشعبي: كل واحدة خير من ألف، قال: كل واحدة خير من عشرة آلاف .




الخدمات العلمية