الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
مسألة .

ربما يقول القائل : أي فائدة في السؤال ممن بعض ماله حرام ومن يستحل المال الحرام ربما يكذب فإن وثق بأمانته فليثق بديانته في الحلال ، فأقول مهما علم مخالطة الحرام لمال إنسان ، وكان له غرض في حضورك ضيافته أو قبولك هديته فلا تحصل الثقة بقوله فلا فائدة للسؤال منه ، فينبغي أن يسأل من غيره وكذا إن كان بياعا وهو يرغب في البيع لطلب الربح فلا تحصل الثقة بقوله : إنه حلال ، ولا فائدة في السؤال منه ، وإنما يسأل من غيره ، وإنما يسأل من صاحب اليد إذا لم يكن متهما كما يسأل المتولي على المال الذي يسلمه أنه من أي جهة وكما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهدية والصدقة فإن ذلك لا يؤذي ولا يتهم القائل فيه وكذلك إذا اتهمه بأنه ليس يدري طريق كسب الحلال فلا يتهم في قوله : إذا أخبر عن طريق صحيح ، وكذلك يسأل عبده وخادمه ليعرف طريق اكتسابه فههنا يفيد السؤال فإذا ، كان صاحب المال متهما فليسأل من غيره ، فإذا أخبره عدل واحد قبله وإن أخبره فاسق يعلم من قرينة حاله أنه لا يكذب حيث لا غرض له فيه جاز قبوله ; لأن هذا أمر بينه وبين الله تعالى ، والمطلوب ثقة النفس وقد يحصل من الثقة بقول الفاسق ما لا يحصل بقول عدل في بعض الأحوال وليس كل من فسق يكذب ، ولا كل من ترى العدالة في ظاهره يصدق ، وإنما نيطت الشهادة بالعدالة الظاهرة لضرورة الحكم فإن ; البواطن لا يطلع عليها وقد قبل أبو حنيفة رحمه الله شهادة الفاسق وكم من شخص تعرفه وتعرف أنه قد يقتحم المعاصي ثم إذا أخبرك بشيء وثقت به وكذلك إذا أخبر به صبي مميز ممن عرفته بالتثبت فقد تحصل الثقة بقوله فيحل الاعتماد عليه فأما إذا أخبر به مجهول لا يدرى من حاله شيء أصلا ، فهذا ممن جوزنا الأكل من يده لأن يده دلالة ظاهرة على ملكه .

وربما يقال : إسلامه دلالة ظاهرة على صدقه وهذا فيه نظر ، ولا يخلو قوله عن أثر ما في النفس حتى لو اجتمع منهم جماعة تفيد ظنا قويا إلا أن أثر الواحد فيه في غاية الضعف ، فلينظر إلى حد تأثيره في القلب فإن المفتي هو القلب في مثل هذا الموضع وللقلب التفاتات إلى قرائن خفية يضيق عنها نطاق النطق فليتأمل فيه ويدل على وجوب الالتفات إليه ما روي عن عقبة بن الحارث أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني تزوجت امرأة فجاءت أمة سوداء فزعمت أنها قد أرضعتنا وهي كاذبة ، فقال دعها فقال : إنها سوداء ، يصغر من شأنها ، فقال عليه السلام فكيف : وقد زعمت أنها قد أرضعتكما ؟ لا خير لك فيها ، دعها عنك .

وفي لفظ آخر : كيف وقد قيل ومهما لم يعلم كذب المجهول ولم تظهر أمارة غرض له فيه كان له وقع في القلب لا محالة ، فلذلك يتأكد الأمر بالاحتراز فإن اطمأن إليه القلب كان الاحتراز حتما واجبا .

التالي السابق


(مسألة) أخرى:

(ربما يقول القائل: أي فائدة في السؤال) والبحث (ممن بعض ماله حرام، وهو يستحل المال الحرام ربما يكذب) في قوله: (فإن وثق بأمانته فليتق بديانته في الحال، ولا) يحتاج أن يسأله، (فأقول مهما علمت مخالطة الحرام بمال إنسان، وكان له غرض في حضورك ضيافته ) أي: طعامه، (أو قبولك هديته فلا تحصل الثقة بقوله) ; لأنه لغرضه ربما يلبس عليه، (فلا فائدة للسؤال عنه، فينبغي أن يسأل عن غيره) ; لأجل حصول الوثوق، (وكذا إن كان بياعا وهو يرغب في البيع لطلب الربح ) في سلعته، (فلا تحصل الثقة بقوله: إنه حلال، ولا فائدة في السؤال منه، وإنما يسأل من غيره، وإنما يسأل من صاحب اليد إذا لم يكن متهما) بكذب أو خيانة، (كما يسأل المتولي) للأوقاف والوصايا وغيرها (عن المال الذي يسلمه أنه من أي جهة) من جهات الخير، (وكما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهدية والصدقة) ، كما تقدم (فإن ذلك لا يؤذي) المسئول ولا يتهم السائل فيه، وكذا إذا اتهمه إنه ليس يدري طريق (الكسب الحلال) لجهله، (فلا يتهم في قوله:) إنه حلال (إذا أخبر من طريق صحيح، وكذلك يسأل عبده وخادمه ليعرف طريق اكتسابه ) من أي الجهات، (فههنا يفيد السؤال، فأما إذا كان صاحب المال متهما) عنده، (فليسأل من غيره، فإذا أخبره عدل واحد قبله) ، ولا يفتقر إلى استناده إلى عدل آخر، (وإن أخبره فاسق يعلم من قرينة حاله أنه لا يكذب حيث لا غرض له فيه جاز قبوله; لأن هذا أمر بينه وبين الله تعالى، والمطلوب ثقة النفس) واطمئنانها، (وقد يحصل من الثقة بقول فاسق ما لا يحصل بقول عدل في بعض الأحوال) والصور; (وليس كل من فسق يكذب، ولا كل من ترى عدله في ظاهره يصدق، وإنما نيطت) أي: علقت (الشهادة) ، وهي إخبار بصحة الشيء عن مشاهدة وعيان لا تخمين وحسبان (بالعدالة الظاهرة لضرورة الحكم; لأن البواطن لا يطلع عليها) ، فهي موكولة إلى الله تعالى، (وقد قبل أبو حنيفة ) رحمه الله تعالى (شهادة فاسق) ، ولم يقبل [ ص: 91 ] شهادة محدود في القذف وإن تاب، وأما سماع شهادة من لا يعرف عدالته الباطنة ، فقال أبو حنيفة : يسأل الحاكم عن باطن عدالتهم في الحدود والقصاص قولا واحدا، وفيما عدا ذلك لا يسأل عنهم إلا أن يطعن الخصم فيهم، فما لم يطعن فيهم لم يسأل، ويسمع شهادتهم فيهم ويكتفي بعدالتهم في ظاهر أحوالهم، وقال مالك والشافعي وأحمد في إحدى روايتيه: لا يكتفي الحاكم بظاهر العدالة حتى يعرف عدالتهم في السابقة سواء طعن الخصم فيهم أو لم يطعن، أو كانت شهادتهم في حد أو غيره .

وعن أحمد رواية أخرى أن الحاكم يكتفي بظاهر إسلامهم ولا يسأل عن الافتراق، وهي اختيار أبي بكر ، وأما شهادة الفاسق فقد أجازها أبو حنيفة خلافا للثلاثة، ودليلهم قوله تعالى: وأولئك هم الفاسقون ، قالوا: يتعين رد الشهادة لفسقه، ويقول أبو حنيفة : الواو في قوله تعالى المذكور واو نظم لا واو عطف، فيكون منقطعا عن الأول فينصرف الاستثناء إلى ما يليه ضرورة، ولا جائز أن يكون رد شهادته على فسقه; لأن الثابت بالنص في خبر الفاسق هو التوقف بقوله تعالى: فاسق بنبإ فتبينوا لا الرد، فتبين أن الشهادة لأجل أنه حد لا للفسق، ولهذا لو أقام أربعة بعدما حد أنه زنى تقبل شهادته بعد التوبة في الصحيح; لأنه بعد إقامة البينة لا يحد بها، فهكذا لا ترد شهادته، (وكم من شخص تعرفه وتعرف أنه يقتحم) أي: يرتكب (المعاصي) والدناءات، (ثم أخبرك بشيء وثقت به) ، واطمأننت إليه، (وكذلك إذا أخبر به صبي مميز عرفته بالتثبت فقد تحصل الثقة بقوله فيحل الاعتماد عليه) ، وقيده بالمميز ليخرج به غير المميز، فإنه لا تحصل الثقة بقوله ولا الاعتماد عليه، وشهادة الصبي غير مقبولة عندنا إلا أن يتحمل في الصغر، وأدى بعد البلوغ لأنه أهل للتحمل .

(فأما إذا أخبر به مجهول لا يدرى من حاله شيء أصلا، فهذا مما جوزنا الأكل من يده) كما سبق قريبا; (لأن يده دلالة ظاهرة على ملكه) ، فلا يعارض بغيره، (وربما يقال: إسلامه دلالة ظاهرة على صدقه) فيما تعدل، (وهذا فيه نظر، ولا يخلو قوله عن أثر ما في النفس حتى لو اجتمع منهم جماعة) ، فإنها (تفيد ظنا قويا) لأجل ذلك الاجتماع، (إلا أن أثر الواحد فيه في غاية الضعف، فلينظر إلى حد تأثيره في القلب) هل يقبله أم لا، (فإن المفتي هو القلب في مثل هذا الموضع) بنص الخبر: استفت قلبك، (وللقلب التفاتات إلى قرائن خفية يضيق عنها نطاق النطق) ، أي: البيان اللساني، (فليتأمل فيه) حق التأمل .

(ويدل على وجوب الالتفات إليه) ، أي: إلى القلب، (ما روي عن عقبة بن الحارث) بن عامر بن نوفل بن عبد مناف النوفلي المكي كنيته أبو سروعة ، ويقال: أبو سروعة أخوه من مسلمة الفتح، بقي إلى بعد الخمسين، روى له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي ، (أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوجت امرأة فجاءتنا أمة سوداء فزعمت أنها قد أرضعتنا وهي كاذبة، فقال دعها) أي: فارقها أو اتركها، (فقال: إنها سوداء، يصغر من شأنها، فقال: وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟) . ولفظ القوت: كيف وقد وفيه قد أرضعتكم، (لا خير لك) ولفظ القوت: لكم، (فيها، دعها عنك، وفي لفظ آخر: كيف وقد قيل) ، قال العراقي : رواه البخاري من حديث عقبة بن الحارث اهـ .

قلت: لفظ البخاري : "أنه تزوج فأتته امرأة فقالت: قد أرضعتكما، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف وقد قيل" . هكذا أخرجه في الشهادات، وأخرجه أبو داود في القضاء، والترمذي في الرضاع، والنسائي في النكاح، قال الطيبي : كيف سؤال عن الحال، وقد قيل: حال وهما يستدعيان عاملا يعمل فيهما، يعني: كيف تباشرها وتفضي إليها وقد قيل أنك أخوها، هذا بعيد من المروءة والورع، وقال الشافعي : كأنه لم يره شهادة فكره له المقام معها تورعا، أي: فأمر بفراقها لا من طريق الحكم بل الورع; لأن شهادة المرضعة على فعلها لا تقبل عند الجمهور، وأخذ أحمد بظاهر الحديث فقبلها، وأورد صاحب القوت حديث عبد زمعة ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش" ، وإنه قال لسودة بنت زمعة : "احتجبي عنه" ، ثم قال: فلذلك يجب التقوى في الشبهات للورع، وإن كانت الأحكام على الظواهر تتسع فيكون تركها للشبهات مقام الورعين وتنزيها للعرض والدين .

(ومهما لم يعلم كذب المجهول ولم تظهر أمارة غرض له فيه) دنيوي، (كان له وقع في القلب) وتأثير عجيب (لا محالة، فلذلك [ ص: 92 ] يتأكد الأمر في الاحتراز، وإن اطمأن القلب إليه كان الاحتراز حتما واجبا) فوق التأكد .




الخدمات العلمية