الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ابتداء أمر القرامطة

وفيها تحرك بسواد الكوفة قوم يعرفون بالقرامطة ، وكان ابتداء أمرهم ، فيما ذكر ، أن رجلا منهم قدم ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة ، فكان بموضع يقال له النهرين ، يظهر الزهد ، والتقشف ، ويسف الخوص ، ويأكل من كسب يده ، ويكثر الصلاة ، فأقام على ذلك مدة ، فكان إذا قعد إليه رجل ذاكره أمر الدين ، وزهده في الدنيا ، وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم وليلة ، حتى فشا ذلك [ عنه ] بموضعه ، ثم أعلمهم أنه يدعو إلى إمام من آل بيت الرسول ، فلم يزل على ذلك حتى استجاب له جمع كثير .

وكان يقعد إلى بقال هناك . فجاء قوم إلى البقال يطلبون منه رجلا يحفظ عليهم ما [ ص: 462 ] صرموا من نخلهم ، فدلهم عليه وقال لهم : إن أجابكم إلى حفظ تمركم فإنه بحيث تحبون ، فكلموه في ذلك ، فأجابهم على أجرة معلومة ، فكان يحفظ لهم ، ويصلي أكثر نهاره ، ويصوم ، ويأخذ عند إفطاره من البقال رطل تمر فيفطر عليه ، ويجمع نوى ذلك التمر ويعطيه البقال ، فلما حمل التجار تمرهم حاسبوا أجيرهم عند البقال ، ودفعوا إليه أجرته ، وحاسب الأجير البقال على ما أخذ منه من التمر ، وحط ثمن النوى ، فسمع أصحاب التمر محاسبته للبقال بثمن النوى فضربوه ، وقالوا له : ألم ترض بأكل تمرنا ، حتى بعت النوى ؟ فقال لهم البقال : لا تفعلوا ! وقص عليهم القصة ، فندموا على ضربه ، واستحلوا منه ما فعل ، وازداد بذلك عند أهل القرية لما وقفوا عليه من زهده .

ثم مرض ، فمكث على الطريق مطروحا ، وكان في القرية رجل أحمر العينين ، يحمل على أثوار له ، يسمونه كرميتة لحمرة عينيه ، وهو بالنبطية أحمر العين ، فكلم البقال الكرميتة في حمل المريض إلى منزله والعناية به ، ففعل ، وأقام عنده حتى برأ ، ودعا أهل تلك الناحية إلى مذهبه ، فأجابوه ، وكان يأخذ من الرجل إذا أجابه دينارا ، ويزعم أنه للإمام ، واتخذ منهم اثني عشر نقيبا أمرهم أن يدعوا الناس إلى مذهبهم ، وقال : أنتم كحواريي عيسى ابن مريم ، فاشتغل أهل كور تلك الناحية على أعمالهم بما رسم لهم من الصلوات .

كان للهيصم في تلك الناحية ضياع ، فرأى تقصير الأكرة في عمارتها ، فسأل عن ذلك ، فأخبر بخبر الرجل ، فأخذه ، وحبسه ، وحلف أن يقتله لما اطلع على مذهبه ، وأغلق باب البيت عليه ، وجعل مفتاح البيت تحت وسادته ، واشتغل بالشرب ، فسمع بعض من في الدار من الجواري بمساءته ، فرقت للرجل ، فلما نام الهيصم أخذت المفتاح ، وفتحت الباب وأخرجته ، ثم أعادت المفتاح إلى مكانه ، فلما أصبح الهيصم فتح الباب ليقتله فلم يجده .

[ ص: 463 ] وشاع ذلك في الناس ، فافتتن أهل تلك الناحية ، ( وقالوا : رفع ) ، ثم ظهر في ناحية أخرى ، ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم ، وسألوه عن قصته ، فقال : لا يمكن أحدا أن ينالني بسوء ! فعظم في أعينهم ، ثم خاف على نفسه ، فخرج إلى ناحية الشام ، فلم يوقف له على خبر ، وسمي باسم الرجل الذي كان في داره كرميتة صاحب الأثوار ، ثم خفف فقيل قرمط ، هكذا ذكره بعض أصحاب زكرويه عنه .

وقيل إن قرمط لقب رجل كان بسواد الكوفة يحمل غلة السواد على أثوار له ، واسمه حمدان ، ثم فشا مذهب القرامطة بسواد الكوفة .

ووقف الطائي أحمد بن محمد على أمرهم ، فجعل على الرجل منهم في السنة دينارا ، فقدم قوم من الكوفة ، فرفعوا أمر القرامطة ، والطائي إلى السلطان ، وأخبروه أنهم قد أحدثوا دينا غير دين الإسلام ، وأنهم يرون السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، إلا من بايعهم ، فلم يلتفت إليهم ولم يسمع قولهم .

وكان فيما حكي عن القرامطة من مذهبهم أنهم جاءوا بكتاب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ! يقول الفرج بن عثمان ، وهو من قرية يقال لها نصرانة ، داعية المسيح ، وهو عيسى ، وهو الكلمة ، وهو المهدي ، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية ، وهو جبريل ، وذكر أن المسيح تصور له في جسم إنسان ، وقال له : إنك الداعية ، وإنك الحجة ، وإنك الناقة ، وإنك الدابة ، وإنك يحيى بن زكرياء ، وإنك روح القدس .

وعرفه أن الصلاة أربع ركعات : ركعتان قبل طلوع الشمس ، وركعتان بعد غروبها ، وأن الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، مرتين ، أشهد أن آدم رسول الله ، أشهد أن نوحا رسول الله ، أشهد أن إبراهيم رسول الله ، أشهد أن موسى رسول الله ، أشهد أن عيسى رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن أحمد بن محمد بن الحنفية رسول الله ، وأن يقرأ في كل ركعة الاستفتاح ، وهي من المنزل على أحمد بن محمد بن الحنفية ، والقبلة إلى بيت [ ص: 464 ] المقدس ، [ والحج إلى بيت المقدس ] ، وأن الجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شيء ، والسورة : الحمد لله بكلمته ، وتعالى باسمه ، المتخذ لأوليائه بأوليائه .

يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس ، ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام ، وباطنها أوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي اتقوني يا أولي الألباب ، وأنا الذي لا أسأل عما أفعل ، وأنا العليم الحكيم ، وأنا الذي أبلو عبادي ، وأمتحن خلقي ، فمن صبر على بلائي ، ومحنتي ، واختباري ألقيته في جنتي ، وأخلدته في نعمتي ، ومن زال عن أمري ، وكذب رسلي أخذته مهانا في عذابي ، وأتممت أجلي ، وأظهرت أمري على ألسنة رسلي .

وأنا الذي لم يعل علي جبار إلا وضعته ، ولا عزيز إلا ذللته ، وليس الذي أصر على أمره ، ودام على جهالته ، وقالوا : لن نبرح عليه عاكفين ، وبه موقنين ، أولئك هم الكافرون .

ثم يركع ، ويقول في ركوعه : سبحان ربي رب العزة ، وتعالى عما يصف الظالمون ، يقولها مرتين ، فإذا سجد قال : الله أعلى ، الله أعلى ، الله أعظم ، الله أعظم .

ومن شريعته أن يصوم يومين في السنة ، وهما المهرجان والنيروز ، وأن النبيذ حرام ، والخمر حرام ، ولا غسل من جنابة إلا الوضوء كوضوء الصلاة ، وأن من حاربه وجب قتله ، ومن لم يحاربه ممن يخالفه أخذ منه الجزية ، ولا يؤكل كل ذي ناب ، ولا كل ذي مخلب .

وكان مسير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج ، فسار قرمط إليه ، وقال له : إني على مذهب ورأي ، ومعي مائة ألف ضارب سيف ، فتناظرني ، فإن اتفقنا على المذهب ملت بمن معي ، وإن تكن الأخرى انصرفت عنك ، فتناظرا ، فاختلفت آراؤهما ، فانصرف قرمط عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية