الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر أسر عمرو الصفار وملك إسماعيل خراسان

في هذه السنة ، في ربيع الأول أسر عمرو بن الليث الصفار ; وكان سبب ذلك أن عمرا أرسل إلى المعتضد برأس رافع بن هرثمة ، وطلب منه أن يوليه ما وراء النهر ، فوجه إليه الخلع واللواء بذلك ، وهو بنيسابور ، فوجه لمحاربة إسماعيل بن أحمد الساماني صاحب ما وراء النهر محمد بن بشير ، وكان خليفته وحاجبه ، وأخص أصحابه بخدمته ، وأكبرهم عنده ، وغيره من قواده إلى آمل ، فعبر إليهم إسماعيل جيحون ، فحاربهم ، فهزمهم ، وقتل محمد بن بشير في نحو ستة آلاف رجل .

وبلغ المنهزمون إلى عمرو ، وهو بنيسابور ، وعاد إسماعيل إلى بخارى فتجهز عمرو لقصد إسماعيل ، فأشار عليه أصحابه بإنفاذ الجيوش ، ولا يخاطر بنفسه ، فلم يقبل منهم ، وسار عن نيسابور نحو بلخ ، فأرسل إليه إسماعيل : إنك قد وليت دنيا عريضة ، وإنما في يدي ما وراء النهر ، وأنا في ثغر ، فاقنع بما في يدك ، واتركني في هذا الثغر . فأبى ، فذكر لعمرو ، وأصحابه شدة العبور بنهر بلخ ، فقال : لو شئت أن أسكره ببذر الأموال ، وأعبره لفعلت .

فسار إسماعيل نحوه وعبر النهر إلى الجانب الغربي ، وجاء عمرو فنزل بلخ ، وأخذ [ ص: 512 ] إسماعيل عليه النواحي لكثرة جمعه ، وصار عمرو كالمحاصر ، وندم على ما فعل ، وطلب المحاجزة ، فأبى إسماعيل عليه ، فاقتتلوا ، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم عمرو فولى هاربا ، ومر بأجمة في طريقه ، فقيل له : إنها أقرب الطرق ، فقال لعامة من معه : امضوا في الطريق الواضح ; وسار هو في نفر يسير ، فدخل الأجمة ، فوحلت به دابته فلم يكن له في نفسه حيلة ، ومضى من معه ولم يعرجوا عليه ، وجاء أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيرا ، فسيره إسماعيل إلى سمرقند .

ولما وصل الخبر إلى المعتضد ذم عمرا ومدح إسماعيل ، ثم إن إسماعيل خير عمرا بين مقامه عنده ، أو إنفاذه إلى المعتضد ، فاختار المقام عند المعتضد ، فسيره إليه ، فوصل إلى بغداذ سنة ثمان وثمانين ومائتين ، فلما وصل ركب على جمل وأدخل بغداذ ، ثم حبس ، فبقي محبوسا حتى قتل سنة تسع وثمانين ومائتين على ما نذكره .

وأرسل المعتضد إلى إسماعيل بالخلع ، وولاه ما كان بيد عمرو ، وخلع على نائبه بالحضرة المعروف بالمرزباني ، واستولى إسماعيل على خراسان وصارت بيده .

وكان عمرو أعور شديد السمرة ، عظيم السياسة ، قد منع أصحابه وقواده أن ( يضرب أحد منهم غلاما ) إلا بأمره ، أو يتولى عقوبة الغلام نائبه ، أو أحد حجابه ، وكان يشتري المماليك الصغار ، ويربيهم ، ويهبهم لقواده ويجري عليهم الجرايات الحسنة سرا ، ليطالعوه بأحوال قواده ، ولا ينكتم عنه من أخبارهم شيء ، ولم يكونوا يعلمون من ينقل إليه عنهم ، فكان أحدهم يحذره وهو وحده .

حكي عنه أنه كان له عامل بفارس يقال له أبو حصين ، فسخط عليه عمرو ، وألزمه أن يبيع أملاكه ، ( ويوصل ثمنها إليه ) ، ففعل ذلك ، ثم طلب منه مائة ألف درهم ، فإن أداها في ثلاثة أيام وإلا قتله ، فلم يقدر على شيء منها ، فأرسل إلى أبي سعيد الكاتب يطلب منه أن يجتمع به ، فأذن له ، فاجتمع به ، وعرفه ضيق يده وسأله أن يضمنه ليخرج [ ص: 513 ] من محبسه ويسعى في تحصيل المبلغ المطلوب منه ، ففعل وأخرجه ، فلم يفتح عليه بشيء ، فعاد إلى أبي سعيد الكاتب ، فبلغ خبره عمرا ، فقال : والله ما أدري من أيهما أعجب ، من أبي سعيد فيما فعل من بذل مائة ألف درهم ، أم من أبي حصين كيف عاد وقد علم أنه القتل ! ثم أمر بإطلاق ما عليه ورده إلى منزلته .

وحكي عنه أنه كان يحمل أحمالا كثيرة من الجرب ، ولا يعلم أحد ما مراده ، فاتفق في بعض السنين أنه قصد طائفة من العصاة عليه ( للإيقاع بهم ) ، فسلك طريقا لا تظن العصاة أنهم يؤتون منه ، وكان في طريقه واد ، فأمر بتلك الجرب فملئت ترابا ، وأحجارا ، ونضد بعضها إلى بعض ، وجعلها طريقا في الوادي ، فعبر أصحابه عليها ، وأتاهم وهم آمنون فأثخن فيهم وبلغ منهم ما أراد .

وحكي أيضا أن أكبر حجابه كان اسمه محمد بن بشير ، وكان يخلفه في كثير من أموره العظام ، فدخل عليه يوما ، وأخذ يعدد عليه ذنوبه ، فحلف محمد بالله والطلاق والعتق أنه لا يملك إلا خمسين بدرة ، وهو يحملها إلى الخزانة ، ولا يجعل له ذنبا لم يعلمه ، فقال عمرو : ما أعقلك من رجل ! احملها إلى الخزانة ، فحملها ، فرضي عنه ، وما أقبح هذا من فعل ( وشره إلى أموال ) من أذهب عمره في خدمته !

التالي السابق


الخدمات العلمية