الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ص ( وبيع ما يفسد ووقف ثمنه معهما بخلاف العدل فيحلف ويبقى بيده )

                                                                                                                            ش : يعني أن من ادعى شيئا مما يفسد بالتأخير كاللحم ورطب الفواكه وأقام شاهدين واحتيج إلى تزكيتهما فإن ذلك الشيء يباع ويوقف ثمنه بخلاف ما إذا أقام عدلا واحدا فإن المدعى عليه يحلف أن المدعي لا يستحق فيه شيئا ويترك ذلك الشيء بيده هكذا قال ابن الحاجب متبرئا منه بقوله قاله ، وقبله في التوضيح وقال تبرأ منه لإشكاله وذلك ; لأن الحكم كما يتوقف على الشاهد الثاني كذلك يتوقف على عدالة الشاهدين فإما أن يباع ويوقف ثمنه فيهما أو يخلى بيده فيهما وأجاب صاحب النكت بأن مقيم العدل قادر على إثبات حقه بيمينه فلما ترك ذلك اختيارا صار كأنه مكنه منه بخلاف من أقام شاهدين أو شاهدا ووقف ذلك القاضي لينظر في تعديلهم لا حجة عليه في ذلك لعدم قدرته على إثبات حقه بغير عدالتهم ، وأشار المازري إلى فرق آخر وهو أن الشاهدين المجهولين أقوى من الواحد ; لأن الواحد يعلم الآن قطعا أنه غير مستقل ، والشاهدان المجهولان إذا عدلا فإنما أفاد تعديلهما بعد الكشف عن وصف كان عليه حين الشهادة ، ويحتمل أن يكون وجه الإشكال ما ذكره ابن عبد السلام مقتصرا عليه فإنه قال : إنما تبرأ منه لأنهم مكنوا من الطعام من هو بيده بعد قيام شاهد ، ولم يمكنوه منه إن قام عليه شاهدان بل قالوا يباع ويوقف ثمنه والشاهد أضعف .

                                                                                                                            قال : قلت : ولأجل أن الشاهد أضعف من الشاهدين أبقي الطعام بيد المدعى عليه ; لأنه إذا ضعفت الدعوى لضعف الحجة ضعف بسبب ذلك أثرها فإبقاء الطعام بيده ليس هو لما توهم من تقديم الأضعف على الأقوى بل هو عين ترجيح الأقوى فأجاب عن ذلك بأنه لو كان صحيحا للزم مثله فيما لا يخشى فساده أن يحلف من هو بيده ويترك له يفعل فيه ما أحب ، قال : ويجاب عن أهل المذهب بأن ما يخشى فساده قد تعذر القضاء بعينه للمدعي لما يخشى عليه من الفساد قبل ثبوت الدعوى فلم يبق إلا النزاع في ثمنه فهو كدين على من هو بيده فمكن منه بعد أن يحلف ليسقط حق المنازع في تعجيله له ولا يلزم مثل ذلك فيما قام عليه شاهدان ; لأن حق المدعي فيه أقوى من حق المدعى عليه انتهى كلام التوضيح . قلت وأصل المسألة في كتاب الشهادات من المدونة قال فيها : وإن كانت الدعوى فيما يفسد من اللحم ورطب الفواكه وقد أقام لطخا أو شاهدا على الحق وأبى أن يحلف وادعى بينة قريبة على الحق أجله القاضي بإحضار شاهدين أو شاهد إن أتى بشاهد قبله ولم يحلف ما لم يخف فساد ذلك الشيء فإن جاء بما [ ص: 185 ] ينتفع به وإلا أسلم ذلك الشيء إلى المطلوب ونهي المدعي عن التعرض له ، وإن كان الطالب قد أقام شاهدين فأوقف القاضي ذلك الشيء إلى الكشف عنهما فإن خاف على فساده باعه وأوقف ثمنه فإن زكيت بينة المدعي وهو مبتاع أخذه وأدى الثمن الذي قالت بينته كان أقل من ذلك أو أكثر ، ويقال للبائع إذا كان يأخذ أكثر من الثمن الموقوف أنت أعلم بالتحرج عن الزيادة ، وإن لم يزكوا أخذ المدعى عليه الثمن الموقوف ; لأنه عليه بيع نظرا ، ولو ضاع الثمن قبل القضاء أو بعده كان لمن قضي له به انتهى .

                                                                                                                            قال في النكت : إذا أقام شاهدين وأوقف القاضي الشيء المدعى فيه لينظر في تعديلهما فخاف فساده أو أقام شاهدا واحدا فكان الحاكم ينظر في تعديله . الجواب سواء يباع ذلك الشيء بخلاف إذا أقام شاهدا واحدا عدلا وأبى أن يحلف معه ، وقال : آتي بآخر ، فخاف الحاكم فساد ذلك الشيء ههنا يسلمه إلى المطلوب ، يريد لأن هذا قادر على إثبات حقه بيمينه مع شاهده الذي ثبت له فترك ذلك اختيارا منه والذي ينظر في تعديل شاهديه أو شاهده الذي أقامه لا حجة عليه انتهى . فهو موافق لما قاله ابن الحاجب إلا أنه لم يذكر استحلاف المطلوب وكذلك قال اللخمي ، ونصه : ومن ادعى مالا يبقى ويسرع إليه الفساد كاللحم ورطب الفواكه وأتى بلطخ أو بينة لا يعرفها القاضي فقال الجاحد وهو البائع أو المدعي وهو المشتري : نخاف فساده أو لم يقولاه فإن أثبت لطخا وقال : لي بينة حاضرة ، أو أقام شاهدا وقال : عندي شاهد آخر ولا أحلف فإن لم يحضر ما ينتفع به وخشي عليه الفساد خلي بين البائع وبين متاعه وأما الشاهدان فينظر في عدالتهما فإن خشي الفساد بيع وأوقف الثمن انتهى . فلم يذكر استحلاف المطلوب أيضا وقال في التنبيهات : قوله في توقيف ما يسرع إليه الفساد إذا قال المدعي عندي شاهد واحد ولا أحلف معه أنه يؤجله ما لم يخف عليه الفساد وإلا خلي بين المدعى عليه وبين متاعه .

                                                                                                                            معنى قوله لا أحلف معه أي ألبتة ولو أراد أن لا يحلف معه الآن لأني أرجو شاهدا آخر فإن وجدته وإلا حلفت مع شاهدي بيع حينئذ ووقف ثمنه إن خشي عليه الفساد ، وليس هذا بأضعف من شاهدين يطلب تعديلهما فقد جعله يبيعه هنا ، ونحن على شك من تعديلهما ، وهو إن لم يعدلهما بطل الحق ، وشاهد واحد في الأول ثابت بكل حال والحلف معه ممكن إن لم يجد آخر ويثبت الحق انتهى . ونقل ابن عرفة كلام المدونة وكلام التنبيهات ثم قال بعد : فحاصلها إن لم يقم المدعي إلا لطخا قاصرا عن شاهد عدل وعن شاهدين يمكن تعديلهما وقف المدعى فيه ما لم يخش فساده فإن خشي فساده خلي بينه وبين المدعى عليه وكذا إن أقام شاهدا عدلا وقال : لا أحلف معه بوجه ، وإن قال : أحلف معه ، أو أتى بشاهدين ينظر في تعديلهما بيع ووقف ثمنه حسبما ذكره في الأم ، ومثل ما ذكره عياض عن المذهب ذكر أبو حفص العطار وزاد : إن كان أتى الطالب بشاهد واحد وإن لم يزكه وهو قابل للتزكية فهو كقيام شاهدين ينظر في تزكيتهما يباع المدعى فيه لخوف فساده ونقل أبو إبراهيم قول عياض ولم يتعقبه ، انتهى كلام ابن عرفة وليس فيه ولا في كلام التنبيهات استحلاف المطلوب لكن في كلام الشيخ أبي الحسن الصغير ما يقتضي ذلك فإنه قال في شرح قوله في المدونة وإلا سلم ذلك الشيء إلى المطلوب : ظاهره من غير يمين الشيخ وهذا لا يصح فمعناه بيمين انظره انتهى . وقال في كتاب الأقضية من النوادر : وإذا كانت الدعوى فيما يفسد من اللحم والفاكهة الطرية وأقام لطخا أو قام له شاهد فإنه يوقف إلى مجيء شاهده الآخر أو يمينه إلى مثل ما لا يخشى فيه فساد الذي فيه الدعوى فإن خاف فساده أحلف المدعى عليه وترك له ما أوقف عليه انتهى .

                                                                                                                            وفي كلام التنبيهات الذي ذكرناه وقبله ابن عرفة تقييد عدم بيع المدعى فيه مع قيام الشاهد العدل بما إذا قال المدعي : لا أحلف معه ألبتة ، وأما إذا قال : لا أحلف [ ص: 186 ] الآن لأني أرجو شاهدا آخر فإن وجدته وإلا حلفت مع شاهدي أنه يباع ويكون بمنزلة الشاهدين ، وكلام ابن عرفة يقتضي أن هذا هو المذهب فإنه قال في كلامه المتقدم : ومثل ما ذكره عياض عن المذهب ذكر أبو حفص العطار وقال بعد أن ذكر كلام ابن الحاجب وابن عبد السلام : حاصل كلامه - يعني ابن عبد السلام - أن المذهب عنده هو ما نقله ابن الحاجب وأشار إلى التبري منه ، ثم قال : ومن تأمل كلام عياض وأبي حفص بن العطار مراعيا أصول المذهب علم منه أن ما فهمه الشيخ - يعني ابن عبد السلام عن المذهب وفسر به كلام ابن الحاجب وما أشار إليه من التبري غير صحيح انتهى .

                                                                                                                            ولا شك أن هذا التقييد الذي ذكره القاضي في التنبيهات يزول به الإشكال فإنه ينبغي أن يقرر وجه التبري في كلام ابن الحاجب بأنه كيف قالوا إنه مع الشاهد الواحد العدل يمكن المدعى عليه من الشيء المدعى فيه ومع الشاهدين اللذين يريد أن يزكيا لا يمكن منه ويباع ويوقف ثمنه مع أن الحق مع الشاهد الواحد العدل أقرب إلى الثبوت ; لأنه يمكن إثباته سواء وجد شاهدا ثانيا أو لم يجده بخلاف الشاهدين اللذين يزكيان فإنه إن لم يجد من يزكيهما لم يثبت الحق فقيام الشاهد الواحد أقوى في إثبات الحق من الشاهدين اللذين يزكيان ، فيجاب عن ذلك بأنه إنما يمكن المدعى عليه من المدعى فيه مع الشاهد الواحد العدل إذا قال المدعي : لا أحلف معه ألبتة وإنما أطلب شاهدا ثانيا فإن وجدته أثبت حقي وإن لم أجده لم أحلف ، فحينئذ يمكن المدعى عليه من المدعى فيه إذا خيف عليه الفساد ; لأن الشاهد الواحد حينئذ أضعف من الشاهدين ; لأن احتمال عدم ثبوت الحق معه حاصل والواحد أضعف من الاثنين ، وأيضا فإن المدعي مختار لعدم إثبات حقه بامتناعه عن اليمين كما تقدم عن النكت

                                                                                                                            وأما إذا قال المدعي : أنا لا أحلف الآن لأني أرجو شاهدا ثانيا فإن وجدته وإلا حلفت فهذا يباع ذلك الشيء ويوقف ثمنه ; لأن الشاهد الواحد حينئذ أقوى من الشاهدين ( فإن قيل ) لم لم يفصلوا فيما لا يخشى فساده في قيام الشاهد الواحد العدل بل قالوا : إنه يحال بين المدعى عليه والشيء المدعى فيه مع قيام الشاهد العدل من غير تفصيل ؟ .

                                                                                                                            ( فالجواب ) إن ما يخشى فساده لما تعذر القضاء بعينه للمدعي لما يخشى من فساده قبل ثبوت الدعوى ولم يبق إلا أن يقضي له بثمنه وقوي حق المدعى عليه بسبب وضع اليد مع ترك المدعي إثبات حقه القادر عليه اختيارا أبقي الشيء المدعى فيه بيد المدعى عليه بخلاف ما لا يخشى فساده ; لأن القضاء بعينه للمدعي ممكن ولا كبير ضرر على المدعى عليه في إيقافه فتأمله والحاصل أن قول المصنف بخلاف العدل فيحلف معه ويبقى بيده ، يقيد ذلك بما إذا قال المدعي : أنا لا أحلف ألبتة مع شاهدي العدل وإنما أطلب شاهدا ثانيا فإن وجدته وإلا تركت ، وأما إذا قال : أنا لا أحلف الآن لأني أرجو شاهدا ثانيا فإن وجدته وإلا حلفت فإن المدعى فيه يباع ويوقف ثمنه كما يوقف مع الشاهدين على ما قاله عياض وأبو حفص العطار وقبله ابن عرفة فتأمله منصفا والله أعلم .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            الخدمات العلمية