الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما التشابه الذي يكون في نفس الآية، فهذا لا يكون إلا مقرونا بالإحكام والبيان والهدى، فإن الله تعالى قد أحكم كتابه كله، وبينه، وجعله هدى، وأمر بتدبره، لكن من الآيات ما لا اشتباه [ ص: 497 ] فيه بوجه، ومنها ما فيه اشتباه من بعض الوجوه، وإن كان ذلك مع الإحكام والبيان، مثل لفظ "إنا ونحن" ونحو ذلك، وكل آية فقد أراد الله -تعالى وتقدس- بها معنى، وعلى ذلك المعنى دل، فلا يجوز أن تكون دلالة القرآن على ما أراده الرب تعالى وعناه وعلى غيره سواء، بل هذا لا يجوز في كلام آحاد العلماء، فكيف في كلام رب العالمين؟ وإذا كان القرآن لا تناقض في دلالته، فالمذهبان إن كان القرآن دل عليهما فكلاهما حق؛ كقول من يقول: إن العبد فاعل لفعله. وقول من يقول: إن الله تعالى هو الذي جعله فاعلا. فكلاهما حق.

والقرآن قد دل على هذا وعلى هذا، فأخبر أن العباد فاعلون، وأنهم هم الذين يكفرون ويؤمنون ويعملون، وقال الخليل وابنه عليهما الصلاة والسلام: ربنا واجعلنا مسلمين [البقرة: 128]. ونحو ذلك، وقال: رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [ ص: 498 ] [إبراهيم: 40]. وأمر عباده أن يقولوا: اهدنا الصراط المستقيم، ونحو ذلك، وإن كان كلاهما باطلا فالقرآن ينفيهما جميعا، كقول من يقول: إن العبد لا قدرة له، ولا مشيئة، ولا فعل. وقول من يقول: بل هو الذي يخلق فعله دون الله. فالقرآن ينفي هذا وهذا، بل نفس الآيات إذا كانت دالة على ما يقول فهي تدل كما يدل أمثال ذلك من الكلام والأدلة وإلا لم تدل.

ودلالة الكلام على المراد تعرف تارة بالضرورة، وتارة بالاستدلال، ويستدل على ذلك بما نقله الأئمة، وبما كان يقوله السلف، يفسرون به القرآن، وبدلالة السنة، وبدلالة سائر الآيات وغير ذلك، كما أن النصارى لما ادعوا أن قوله "إنا ونحن" تدل على قولهم: إن الآلهة ثلاثة. وقالوا في قوله تعالى: قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق [البقرة: 133]. أن الآلهة ثلاثة، كان في هذا تشابه، فإن لفظ "نحن" يستعمل في الواحد الذي له شركاء، وفي الواحد المعظم المطاع الذي له مماليك تطيعه، والعطف يكون لتغاير الصفات، ويكون لتغاير الذوات، فهو أمر متشابه.

والمحكم في القرآن كقوله تعالى: وإلهكم إله واحد [البقرة: 163]. وقوله تعالى: وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد [النحل: 51]. وقوله تعالى: [ ص: 499 ] أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد [الأنعام: 19]. وقوله تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [الإسراء: 110]. وقوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد [المائدة: 73]. وأمثال ذلك، فيرد إليه المتشابه، ويعلم أن قوله: إلهك وإله آبائك [البقرة: 133]. عطف لتغاير الصفات كقوله تعالى: هو الأول والآخر والظاهر والباطن [الحديد: 3]. وكقوله تعالى: رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين [الدخان: 7-8]. وقوله تعالى "إنا ونحن" لعظمة الرب تعالى، وأن ما سواه مخلوق مملوك له من الملائكة وغيرهم، فهو أحق بنون العظمة ممن استعمل هذا اللفظ فيه من الملوك وإن كان اللفظ نفسه لا اشتباه فيه، وإذا اشتبه على هذا لقصور فهمه بين له ذلك بنظائره، ولهذا كان السلف رضي الله تعالى عنهم يسمون ما أشكل على بعض الناس حتى فهم منه غير المراد: متشابها. [ ص: 500 ]

كما صنف الإمام أحمد رحمه الله تعالى كتابا في الرد على الزنادقة والجهمية، فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله، فهو لم ينكر عليهم مسمى التأويل، بل إنه أنكر أن يتأولوه على غير متأوله، وهو التأويل الباطل.

والمراد بالتأويل التفسير، ليس المراد صرفه إلى الاحتمال المرجوح، وقوله: فيما شكت فيه من متشابه القرآن، هو ما تشابه عليها وإن كان الله تعالى قد أحكم ذلك وبينه، لكن [ ص: 501 ] لقصورهم وتقصيرهم تشابه عليهم، حتى شكوا فيه، فهذا هذا، والله تعالى أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية