الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                18039 ( أخبرنا ) أبو سهل محمد بن نصرويه بن أحمد المروزي قدم علينا نيسابور ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن خنب إملاء ، ثنا أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق القاضي ، ثنا إبراهيم بن حمزة ، ثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام ، وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي ، وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر ، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر . وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لما أبلاه الله ، فلما أن جاء قيصر كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين قرأه : التمسوا لي ههنا أحدا من قومه أسألهم [ ص: 178 ] عن رسول الله ؟ قال ابن عباس : فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشام في رجال قريش قال أبو سفيان : فوجدنا رسول قيصر ببعض الشام ، فانطلق بي وبأصحابي حتى قدمنا إيلياء ، فأدخلنا عليه فإذا هو في مجلس ملكه ، وعليه التاج ، وإذا حوله عظماء الروم ، فقال لترجمانه : سلهم أيهم أقرب نسبا إلى هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي . قال أبو سفيان : فقلت : أنا أقربهم إليه نسبا . قال : ما قرابة ما بينك وبينه ؟ قال : فقلت : هو ابن عمي . قال : وليس في الركب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري . فقال قيصر : أدنوه مني . ثم أمر بأصحابي فجعلوا خلف ظهري عند كتفي ، ثم قال لترجمانه : قل لأصحابه إني سائل هذا الرجل عن الذي يزعم أنه نبي ، فإن كذب فكذبوه . قال أبو سفيان : والله لولا الحياء يومئذ أن يأثر أصحابي عني الكذب كذبت عنه حين سألني عنه ، ولكني استحييت أن يأثروا الكذب عني فصدقته عنه ، ثم قال لترجمانه : قل له كيف نسب هذا الرجل فيكم ؟ قال : قلت : هو فينا ذو نسب . قال : فهل قال هذا القول أحد منكم قبله ؟ قال : قلت : لا . قال : فهل كنتم تتهمونه على الكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : قلت : لا . قال : فهل من آبائه من ملك ؟ قال : قلت : لا . قال : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ؟ قال : قلت : بل ضعفاؤهم . قال : فيزيدون أم ينقصون ؟ قال : قلت : بل يزيدون . قال : فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قال : قلت : لا . قال : فهل يغدر ؟ قال : قلت : لا ، ونحن الآن منه في مدة نحن نخاف أن يغدر . قال أبو سفيان : ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا أنتقصه به لا أخاف أن تؤثر عني غيرها . قال : فهل قاتلتموه وقاتلكم ؟ قال : قلت : نعم . قال : فكيف كانت حربكم وحربه ؟ قال : قلت : كانت دولا وسجالا ، يدال علينا المرة وندال عليه الأخرى . قال : فماذا يأمركم به ؟ قال : يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة ، والصدق ، والعفاف ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة . قال : فقال لترجمانه حين قلت ذلك له قل له : إني سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه ذو نسب ، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها . وسألتك هل قال هذا القول أحد منكم قبله فزعمت أن لا ؛ فقلت : لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله قلت : رجل يأتم بقول قد قيل قبله . وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا ؛ فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ويكذب على الله . وسألتك هل كان من آبائه من ملك فزعمت أن لا ؛ فقلت : لو كان من آبائه ملك قلت يطلب ملك آبائه . وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ، فزعمت أن ضعفاءهم اتبعوه ، وهم أتباع الرسل . وسألتك هل يزيدون أم ينقصون ، فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم . وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد ، وسألتك هل يغدر ، فزعمت أن لا ، وكذلك الرسل لا يغدرون . وسألتك هل قاتلتموه وقاتلكم ، فزعمت أن قد فعل وأن حربكم وحربه يكون دولا يدال عليكم المرة وتدالون عليه الأخرى ، وكذلك الرسل تبتلى وتكون لها العاقبة . وسألتك بماذا يأمركم ، فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئا ، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم ، ويأمركم بالصلاة ، والصدق ، والعفاف ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وهذه صفة نبي قد كنت أعلم أنه خارج ، ولكن لم أظن أنه منكم ، وإن يكن ما قلت حقا فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ، ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقيه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه . قال أبو سفيان : ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر به فقرئ ، فإذا فيه : " بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوك بداعية الإسلام ، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فعليك إثم الأريسيين ، و ( بالمفسدين قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) " . قال أبو سفيان : فلما أن قضى مقالته علت أصوات الذين حوله من عظماء الروم ، وكثر لغطهم ، فلا أدري ماذا قالوا ، وأمر بنا فأخرجنا ، فلما أن خرجت مع أصحابي ، وخلوت بهم قلت لهم : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ؛ هذا ملك بني الأصفر يخافه . قال أبو سفيان : والله ما زلت ذليلا مستيقنا بأن أمره سيظهر حتى أدخل الله قلبي الإسلام وأنا كاره . رواه البخاري في الصحيح ، عن إبراهيم بن حمزة ، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن إبراهيم بن سعد .

                                                                                                                                                ( قال الشافعي - رحمه الله ) : فأغزى أبو بكر - رضي الله عنه - الشام على ثقة من فتحها لقول [ ص: 179 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففتح بعضها ، وتم فتحها في زمن عمر - رضي الله عنه - وفتح عمر - رضي الله عنه - العراق ، وفارس . ( قال الشيخ ) : وهذا الذي ذكره الشافعي بين في التواريخ ، وسياق تلك القصص مما يطول به الكتاب . ( قال الشافعي ) - رضي الله عنه - : فقد أظهر الله - جل ثناؤه - دينه الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الأديان بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خالفه من الأديان باطل ، وأظهره بأن جماع الشرك دينان دين أهل الكتاب ، ودين الأميين ، فقهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعا وكرها ، وقتل من أهل الكتاب ، وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام ، وأعطى بعض الجزية صاغرين ، وجرى عليهم حكمه - صلى الله عليه وسلم - وهذا ظهور الدين كله . قال الشافعي - رحمه الله : وقد يقال ليظهرن الله دينه على الأديان حتى لا يدان الله إلا به ، وذلك متى شاء الله - عز وجل .

                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                الخدمات العلمية