الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                17314 ( حدثنا ) أبو عبد الله الحافظ ، ثنا أبو بكر : أحمد بن إسحاق ، ثنا عبيد بن عبد الواحد ، ثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك : أن عبد الله بن كعب قائد كعب حين عمي من بنيه ، قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، قال كعب بن مالك : لم أتخلف ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني تخلفت عن غزوة بدر ، ولم يعاتب الله أحدا [ ص: 34 ] حين تخلف عنها إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها كان من خبري حين تخلفت ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ، ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ، والله ما اجتمعت عندي قبلها راحلتان قط حتى جمعتهما تلك الغزوة ، ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ، ومفازا ، وعدوا كثيرا ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، وأخبرهم بوجهه الذي يريده ، والمسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثير لا يجمعهم كتاب حافظ يريد الديوان ، قال كعب : فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله ، وغزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ، فتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه ، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ، ولم أقض شيئا ، وأقول في نفسي إني قادر على ذلك إذا أردته ، فلم يزل يتمادى بي حتى استحر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئا ، فقلت : أتجهز بعده يوما أو يومين ، ثم ألحقهم ، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئا ، ثم غدوت ، ثم رجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا ، وتفارط الغزو ، وهممت أن أرتحل فأدركهم ، وليتني فعلت ، فلم يقدر لي ذلك ، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا من النفاق ، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ، فلم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك ، قال : وهو جالس في القوم بتبوك : " ما فعل كعب ؟ " فقال : رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه برداه ينظر في عطفيه ، فقال له معاذ بن جبل : بئسما قلت : والله يا رسول الله ما علمنا إلا خيرا ، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كعب : فلما بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد توجه قافلا من تبوك حضرني همي ، وطفقت أتذكر الكذب ، وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا ، وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظل قادما زاح عني الباطل ، وعرفت أني لا أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب ، فأجمعت صدقه ، وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قادما ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد ، فصلى فيه ركعتين ، ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاء المخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فقبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتهم ، وبايعهم ، واستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى الله عز وجل ، فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال : " تعال " . فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال : " ما خلفك ألم تكن ابتعت ظهرك ؟ " فقلت : بلى يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا ، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه . إني لأرجو عفو الله ، لا والله ما كان لي من عذر ، والله ما كنت قط أقوى ، ولا أيسر مني حين تخلفت عنك . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أما هذا فقد صدق ، قم حتى يقضي الله فيك " . فقمت وسار رجال من بني سلمة ، فقالوا : لا والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما اعتذر إليه المخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك . فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع ، فأكذب نفسي ، ثم قلت : هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا : نعم ، رجلان قالا مثلما قلت وقيل لهما مثلما قيل لك . فقلت : من هما ؟ قالوا : مرارة بن الربيع العمري ، وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي . ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس ، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة ، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما ، وأما أنا فكنت [ ص: 35 ] أشب القوم وأجلدهم ، وكنت أخرج ، فأشهد الصلاة مع المسلمين ، وأطوف في الأسواق ، ولا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مجلسه بعد الصلاة ، فأسلم عليه ، فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ثم أصلي ، فأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه ، فوالله ما رد علي السلام ، فقلت له : يا أبا قتادة أنشدك الله ، هل تعلمني أحب الله ورسوله ، قال : فسكت ، فعدت له ، فنشدته ، فسكت ، قال : فعدت له ، فناشدته الثالثة ، فقال : الله ورسوله أعلم ، ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار ، قال : فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك ، فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان ، وكنت كاتبا ، فإذا فيه : أما بعد ، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ، ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسيك . فقلت حين قرأتها : وهذا أيضا من البلاء ، فتيممت به التنور فسجرته بها حتى إذا مضت لنا أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك ، فقلت : أطلقها ؟ أم ماذا أفعل بها ؟ فقال : لا ، بل اعتزلها ، فلا تقربنها ، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك ، فكوني عندهم حتى يقضي الله هذا الأمر . قال كعب : فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليست له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : " لا ، ولكن لا يقربنك " ، قالت : إنه والله ما به حركة إلى شيء ، وإنه ما زال يبكي مذ كان من أمره ما كان إلى يومي هذا ، فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأتك كما أذن لهلال بن أمية تخدمه ، فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يدريني ما يقول لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن استأذنته فيها وأنا رجل شاب ، فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا ، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة ، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت علي نفسي ، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع : يا كعب بن مالك أبشر ، فخررت ساجدا ، وعرفت أنه قد جاء الفرج ، وأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر ، فذهب الناس يبشروني ، وذهب قبل صاحبي مبشرون ، وركض رجل إلي فرسا ، وسعى ساع من أسلم ، فأوفى على الجبل ، وكان الصوت أسرع إلي من الفرس ، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت ثوبي فكسوتهما إياه ببشراه ووالله ما أملك غيرهما يومئذ ، واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلقت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة ، يقولون : لتهنك توبة الله عليك ، حتى دخلت المسجد فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ، ولا أنساها لطلحة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبرق وجهه من السرور : " أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك " . قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : " لا ، بل من عند الله - تبارك وتعالى - " . وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بشر ببشارة يبرق وجهه حتى كأنه قطعة قمر ، وكذلك يعرف ذلك منه ، فلما جلست بين يديه ، قلت : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله عز وجل ، وإلى الرسول ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " ، فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر ، فقلت : يا رسول الله إنما نجاني بالصدق ، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت ، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث مذ حدثت ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن مما ابتلاني . ما تعمدت مذ ذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومي هذا كذبا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي ، فأنزل الله على رسوله : ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) . [ ص: 36 ] فوالله ما أنعم الله علي من نعمة بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ أن لا أكون كذبته ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه ؛ فإن الله قال للذين كذبوه حين نزل الوحي شر ما قال لأحد ، قال الله - تبارك وتعالى : ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) ، قال كعب : وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حلفوا له فبايعهم ، واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا حتى قضى الله فيه ، فبذلك قال الله - تبارك وتعالى : ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ) وليس الذي ذكر الله تخلفنا عن الغزو ، وإنما هو تخليفه إيانا ، وإرجاؤه أمرنا ممن حلف واعتذر ، فقبل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري في الصحيح عن يحيى بن بكير .

                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                الخدمات العلمية