الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الفساد المالي والإداري - رؤية إسلامية - في الوقاية والعلاج

          الأستاذ / أمين نعمان الصلاحي

          المبحث السادس

          منع كبار الموظفين من ممارسة التجارة

          يعد الجمع بين السلطة والتجارة من أهم الذرائع المؤدية إلى الفساد المالي والإداري، والإضرار بالمصلحة العامة.. وقد تنبه العلامة ابن خلدون (ت808هـ) في كتابه الشهير "المقدمة" إلى مخاطر الجمع بين السلطة والتجارة، فعقد فصلا عنونه بـ: "التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية" [1] .

          ويرصد ابن خلدون عددا من وجوه الضرر الناتجة عن الجمع بين السلطة والتجارة، فيذكر:

          - مضايقة ذوي التجارة في معاشهم:

          "حتى لا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته، ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد" [2] .

          - الاستيلاء على أموال الناس باسم التجارة:

          إما بأخذها غصبا، أو بثمن بخس [3] .

          [ ص: 115 ] - فساد الجباية:

          لأن الجباية إنما تؤخذ من عامة الناس، فإذا أصبحت التجارة بيد أهل السلطة، فهم لن يؤدوا ضرائب أموالهم للدولة [4] .

          - الاحتكار والتحكم في أسعار السوق على النحو الذي يراعي مصلحة تجار السلطة، ويضر بمصالح عامة الناس:

          يقول ابن خلدون: "وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلبين في البلدان أنهم يتعرضون لشراء الغلات والسـلع من أربابها الوارديـن على بلدهم، ويفرضـون لذلك من الثـمن ما يشـاءون، ويبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعـايا بما يفرضـون من الثمن" [5] .

          وقد تنبه المسلمون مبكرا لمفاسد الجمع بين السلطة والتجارة، فبعد استخلاف أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ذهب إلى السوق كعادته لممارسة عمله التجاري، فلقيه في الطريق عمر وأبو عبيدة، رضي الله عنهما، "فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟

          قال: السوق.

          قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟

          [ ص: 116 ] قال: فمن أين أطعم عيالي؟

          قالا له: انطلق حتى نفرض لك شـيئا" [6] .

          فالمبدأ هنا واضح، وهو وجوب التفرغ لمهام السلطة وعدم الانشغال بأعمال أخرى: "ما تصنع وقد وليت أمر المسلمين"؟ لا سيما الانشغال بالتجارة، لما فيها من المفاسد الكثيرة، وهي المفاسد التي عبر عنها عمر، رضي الله عنه، بقوله: "إن تجارة الأمير في إمارته خسارة" [7] .

          فالجمع بين السلطة والتجارة خسارة من جميع الجوانب، وأضرارها تمس المجتمع والدولة.

          وفي عهد الخليفة عمر، رضي الله عنه، نشطت حركة التجارة وتوسعت، وشارك فيها بعض الولاة، وظهرت عليهم مظاهر الثراء، وفي مواجهة ذلك ابتكر عمر، رضي الله عنه، نظام المقاسمة، الذي يعد من أولوياته، فكان يقاسم الولاة أموالهم الناشئة عن التجارة، وعين لهذه المهمة محمد بن مسلمة الأنصاري، رضي الله عنه، الذي كان بمثابة المفتش [ ص: 117 ] العام [8] ، وكان يبعثه إلى الولاة في مختلف الأمصار للتحقيق معهم ومقاسمة أموالهم الزائدة بعد الولاية، أو مصادرتها إلى بيت مال المسلمين.

          فقد "كتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إلى عمرو بن العاص، وكان عامله على مصر:

          من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص، سـلام عليك، أما بعد، فإنه بلغني أنك فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال لك، فاكتب إلي من أين أصـل هذا المال ولا تكتمه.

          فكتب إليه: من عمرو بن العاص إلى عبـد الله عمر بن الخطـاب أمير المؤمنين.. سـلام عليك.. فإني أحمد إليك الله، الذي لا إله إلا هو، أما بعد:

          فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنـين يذكر فيه ما فشـا لي، وأنه يعرفـني [ ص: 118 ] قبل ذلك ولا مال لي، وإني أعلم أمير المؤمنين أني ببلد السـعر به رخيص، وأني من الحرفة والزراعة ما يعالجه أهله، وليس في رزق أمير المؤمنين سعة، وبالله لو رأيت خيانتك حلالا ما خنتك، فأقصر أيها الرجل، فإن لنا أحسابا هي خير من العمل لك، إن رجعنا إليها عشنا بها...

          فكتب إليه عمر:

          أما بعد، فإني والله ما أنا من أساطيرك التي تسـطر، ونسـقك الكلام في غير مرجـع! وما يغني عنـك أن تـزكي نفسـك، وقد بعثت إليك محمد بن مسـلمة فشاطره مالك، فإنكم أيها الرهـط الأمـراء جلسـتم على عيون المال ثم لم يعوزكم عذر، تجمعون لأبنائكم، وتمهدون لأنفسكم، أما [إنكم] تجمعون العار، وتورثون النار، والسلام" [9] .

          ثم أرسل إليه محمد بن مسلمة إلى مصر ليقاسمه أمواله "فصنع له أول ليلة قدم عليه طعاما كثيرا، فقال محمد: ما هذا طـعام الضـيف، وحلف أن لا يأكله، وقاسمه حتى أخذ منه أحد نعليه فأخرجه! فقال عمرو: لا كان زمان يلي فيه ابن العاص لابن الخطاب، لقد أدركت أباه في عباءة والعاص في الديباج. فقال له ابن مسلمة: دعنا من هذا، أبوك وأبوه في النار، [ ص: 119 ] وهو خير منك. فقال عمرو: استرها علي، فلم يذكرها لعمر" [10] .

          وكان الحارث بن وهب أحد الولاة، فاستدعاه عمر، وقال له: ما أعبد وقلاص [11] بعتها بمائة دينار؟

          قال: فخرجت بنفقة معي فتجرت فيها.

          قال: إنا والله ما بعثناك للتجارة في أموال المسلمين! ثم أمره أن يسلمها إلى بيت المال [12] .

          و"استعمل عمر عتبة بن أبي سفيان على كنانة، فقدم معه بمال. فقال: ما هذا يا عتبة؟

          قال: مال خرجت به معي وتجرت فيه.

          قال: ومالك تخرج المال معك في هذا الوجه؟ فصيره في بيت المال" [13] .

          وكذلك فعل عمر، رضـي الله عنه، مع أبي موسـى والي البصـرة، وأبي هريرة والي البحرين، فقد استدعاهما وحقق معهما في أموالهما الزائدة، [ ص: 120 ] فتعللا بالتجارة، فشاطرهما تلك الأموال، وجعلها في بيت مال المسلمين [14] .

          قال الإمام ابن تيمية (ت728هـ): "... وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة والمؤاجرة والمضاربة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك هو نوع من الهدية، ولهذا شاطر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من عماله من كان له فضل ودين ولا يتهم بخيانة، وإنما شاطرهم لما كانوا خصوا به لأجل الولاية من محاباة وغيرها، وكان الأمر يقتضي ذلك؛ لأنه كان إمام عدل يقسم بالسوية" [15] .

          ولم يقف عمر، رضي الله عنه، عند هذا الحد، بل شاطر أبناءه أموالهم الناشئة عن التجارة، حذرا من وقوع المحابة لهم؛ لأنهم أبناء أمير المؤمنين.

          فقد روى الإمام مالك (ت179هـ) في "الموطأ" عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال: "خرج عبد الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق، فلما قفلا مرا على أبي موسى الأشعري وهو أمير البصرة، فرحب بهما وسهل، ثم قال لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت.

          ثم قال: بلى.. ها هنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه، فتبتاعان به متاعا من متاع العراق، ثم تبيعانه بالمدينة، فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين، ويكون الربح لكما.

          [ ص: 121 ] فقالا: وددنا ذلك.

          ففعل. وكتب إلى عمر بن الخطاب: أن يأخذ منهما المال.

          فلما قدما باعا فأربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر قال: أكل الجيش أسلفه مثل ما أسلفكما؟

          قالا: لا.

          فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما!! أديا المال وربحه.

          فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين هذا، لو نقص هذا المال، أو هلك لضمناه.

          فقال عمر: أدياه.. فسكت عبد الله، وراجعه عبيد الله.

          فقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا.

          فقال عمر: قد جعلته قراضا.

          فأخـذ عمر رأس المال ونصـف ربحه، وأخذ عبـد الله وعبيـد الله، ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال" [16] .

          والمتأمل في سيرة عمر، رضي الله عنه، يرى أنه كانت لديه حساسية عالية تجاه المنافع الشخصية، التي يمكن أن تكتسب بجاه السلطة، وبلغ من حساسيته أنه كان يتحرج من مشاركة أبنائه لبقية الناس في المنافع العامة، التي كانت تقدمها الدولة، ولا أدل على ذلك من هذه الرواية، التي يرويها [ ص: 122 ] الحافظ ابن عساكر (ت571هـ) بسنده عن عبدالله بن عمر، قال:

          "اشتريت إبلا، وأنجعتها [أرسلتها] إلى الحمى

          [17] ، فلما سمنت قدمت بها.

          قال: فدخل عمر بن الخطاب السوق فرأى إبلا سمانا فقال: لمن هذه؟ قيل: لعبد الله بن عمر.

          قال: فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر بخ بخ ابن أمير المؤمنين!

          قال: فجئته أسعى. فقلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟

          قال: ما هذه الإبل؟

          قلت: أنا اشتريتها وبعثت بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون.

          قال: فقال ارعـوا إبل ابن أمير المؤمـنين! اسـقوا إبل ابن أمير المؤمـنين! يا عبد الله بن عمر، اغد على رأس مالك واجـعل باقيه في بيت [ ص: 123 ] مال المسلمين" [18] .

          ولما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، استهل خلافته بمنشور أرسله إلى جميع الولاة في كل البلدان، ومما جاء فيه:

          "ونرى أن لا يتاجر إمام، ولا يحل لعامل تجارة في سلطانه الذي هو عليه، فإن الأمير متى يتجر يسـتأثر ويصب أمورا فيها عنت، وإن حرص أن لا يفعل" [19] .

          وهذا الوعي بخطورة الجمع بين السلطة والتجارة أصبح اليوم من المسلمات في الأدبيات السياسية المعاصرة؛ إذ بات الجميع يدرك خطورة الجمع بين السلطة والتجارة، وما يترتب عليه من المفاسد الكثيرة، حتى إن الفصل بين السلطة والتجارة أصبح من العلامات الفارقة التي تتميز بها أنظمة الحكم النزيهة عن الأنظمة الفاسدة، حيث تحرم الأولى الجمع بين التجارة والسلطة، بخلاف الثانية التي يتم فيها تسخير الوظائف والمناصب العليا للقيام بالأنشطة التجارية، وبذلك تجمع النخب الحاكمة بين السلطة والثروة، فيتعزز الاستبداد، ويستشري الفساد، ويضحى بالمصلحة العامة في [ ص: 124 ] سبيل المصالح الخاصة.

          وإدراكا لهذه المخاطر والآثار، سنت الدول المتقدمة تشريعات صارمة تمنع المسؤولين عند مستويات معينة من ممارسة أي نشاط تجاري خلال فترة توليهم مناصبهم في الدولة، ولا شك أن ذلك يعد إجراء وقائيا مهما لمكافحة الفساد المالي والإداري، وحماية المال العام، والمصالح العامة.

          وأما في دول العالم الثالث، ومنها الدول العربية والإسلامية، فالغالب على هذه الدول هو عدم الفصل بين التجارة والسلطة، وعدم وجود تشـريعات تحرم الجمع بينهما، وإن وجدت فهي لا تجد سـبيلها إلى التطبيق، ولذلك أصبحت المناصب الوظيفية وسيلة للإثراء غير المشـروع من خلال تسـخير إمكانات وامتيازات السـلطة في العمل التجاري، وهو ما فتح الباب على مصراعيه لكثير من الممارسـات الفاسدة، لاسيما فساد العقود والصفقات.

          ونتيجة لذلك أصبحت السلطة توأم الثروة، وأصبح التفاوت شاسعا بين من يملكون مقاليد السلطة والثروة، وهم أقلية، وبين غالبية الشعب، الذين يجاهدون في سبيل توفير الاحتياجات والمطالب الأسـاسـية للعيش ولا يكادون يحصـلون عليها، وهذا أدى بدوره ـ ضـمن عـوامل أخرى ـ إلى حالة من الاحتقان والسـخط الشـعبي، وعدم الاسـتقرار السـياسي في كثير من دول العالم الثالث.

          [ ص: 125 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية