الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الفساد المالي والإداري - رؤية إسلامية - في الوقاية والعلاج

          الأستاذ / أمين نعمان الصلاحي

          المبحث الثاني

          مفهوم السياسة الوقائية في الإسلام

          الحديث عن سياسة الإسلام الوقائية في مكافحة الفساد المالي والإداري يعني بداهة أن للإسلام منهجا وطريقة في الوقاية من الفساد... واستكشاف معالم وخصائص ذلك المنهج الوقائي هو أمر في غاية الأهمية في أي بحث أو دراسة تتناول سياسة الإسلام الوقائية في مكافحة الفساد المالي والإداري، أو أي فساد آخر.

          إن الإسلام في كل تشريعاته إنما يهدف إلى طهارة القلب، واستقامة السلوك، والتحلي بالفضائل، والبعد عن الرذائل، ولقد قامت شريعته على مبدأ كلي متفق عليه وهو تحقيق المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها.

          والعلماء المسلمون كانوا يتحدثون عن السياسة الوقائية في مباحث سطروها في علم أصول الفقه تحت عنوان: "سد الذرائع"، وبالتأمل فيما كتبه العلماء المسلمون حول سد الذرائع سنجد أنهم كانوا يتحدثون عن السياسة الوقائية في الإسلام، ويضعون لها من الشروط والضوابط ما يكفل قيامها على أسس صحيحة وسليمة، وحتى تؤدي دورها في وقاية المجتمع من الشرور والمفاسد على أكمل الوجوه.

          [ ص: 52 ] وفي تعريفهم لسد الذرائع يقول علماء الأصول: "إن الذرائع هي الوسائل... والمقصود بالذرائع الوسائل المفضية إلى الفساد، ومعنى سد الذرائع: منع الوسائل المؤدية إلى الفساد" [1] .

          وبتعبير آخر ـ عند بعضهم ـ فإن سد الذرائع هو "منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز" [2] .

          ويرى كثير من علماء الإسلام أن سد الذرائع أصل من أصول التشريع قائم بذاته، ودليل معتبر من أدلة الأحكام، ما دام الفعل ذريعة إلى المفسدة الراجحة؛ ذلك أن الشريعة جاءت بمنع الفساد وسد طرقه ومنافذه [3] .

          يقول الإمام ابن القيم (ت751هـ):

          "وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي..

          والأمر نوعان؛ أحدهما: مطلوب لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود.

          والنهي نوعان؛ أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسـدة في نفسه، [ ص: 53 ] والثـاني: ما يكون وسيلة إلى المفسـدة.. فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين" [4] .

          ويقول الإمام الشاطبي (ت790هـ): "سد الذرائع مطلوب مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع" [5] .

          ويذكر العلماء أدلة كثيرة تدل على اعتبار سد الذرائع، وجعلها من أدلة الأحكام، ومن ذلك:

          - تحريم الخلوة بالأجنبية؛ لئلا تفضي تلك الخلوة إلى المحذور.

          - تحريم الشارع أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، أو أن يبيع على بيع أخيه؛ سدا لذريعة التباغض والتباعد.

          - نهي الشـارع عن الاحتكار؛ لأنه ذريعة إلى التضـييق على الناس في أقواتهم.

          - النهي عن الوصية والهبة بأكثر من الثلث؛ حتى لا يتخذ ذلك ذريعة لحرمان الورثة.

          - النهي عن تعظيم القبور واتخاذ المسـاجد عليها؛ سـدا لذرائع [ ص: 54 ] الإشراك بالله.

          - ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين؛ لكي لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.

          إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي يذكرها أهل العلم [6] .

          ومن يتأمل في الأحكام الشرعية يرى كثيرا من الأحكام التي بنيت على أساس الوقاية من الوقوع في المحظور، ومن ذلك الأمر الرباني بغض البصر: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (النور:30).

          بل إننا نجد الشـارع الحكيم يأمر بإيقاف بعض الأحكام كإجراء وقائي، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقطع الأيدي في الغزو" [7] .

          وقد أخذ العلماء من هذا الحديث إيقاف إقامة الحدود في حال الحرب [ ص: 55 ] والجهاد؛ لأن إقامتها قد يؤدي إلى فرار المحدود إلى العدو [8] .

          وهذا المعنى هو الذي فقهه عمر، رضي الله عنه، وكتب به إلى قادة الجيوش: "ألا يجلدن أمير جيش ولا سرية أحدا، حتى يطلع على الدرب، لئلا تحمله حمية الشيطان أن يلحق بالكفار" [9] .

          وإلى جانب ما سطره علماء الأصول في باب سد الذرائع نجد التعبير عن السياسة الوقائية في الإسلام في تلك القواعد الكلية المستنبطة من النصوص الشرعية، مثل قاعدة: "الضرر يدفع قدر الإمكان"، وقاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، ونحو ذلك من القواعد التي ترشد إلى دفع الضرر قبل وقوعه، ودرء المفاسد قبل حصولها.

          واستنادا على ما جاءت به الشريعة من أحكام وقواعد أصبح مبدأ السياسة الوقائية أحد أهم المبادئ في السياسة الشرعية [10] ، وأجاز الفقهاء [ ص: 56 ] المسلمون للحاكم المسلم أن يصدر من الأحكام، وأن يتخذ من الإجراءات ما يمنع به وقوع الشر والفساد من باب السياسة الشرعية وإن لم يأت بها نص خاص [11] .

          وهكذا يمكن القول:

          إن للإسلام سياسته الوقائية، وإن مفهوم تلك السـياسة يتحدد في جملة من التوجيهات والأحكام الشرعية، وكذلك الإجراءات الداخلة في باب السياسة الشرعية والتي تهدف جميعها إلى الحيلولة دون وقوع المفاسد والشرور والجرائم والآثام، وإلى منع تكرار وقوعها في حال حدوثها.

          [ ص: 57 ] [ ص: 58 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية