الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الفساد المالي والإداري - رؤية إسلامية - في الوقاية والعلاج

          الأستاذ / أمين نعمان الصلاحي

          المبحث العاشر

          تطبيق العقوبات الرادعة

          العقوبة في الرؤية الإسلامية هي الجزاء العادل، ولها وظيفتان:

          الأولى: تأديب وتهذيب من اقترف جرما.

          والثانية: ردع من تسول له نفسه إتيان الفعل الـمجرم.

          والسياسة الوقائية الإسلامية في مكافحة الفساد المالي والإداري جعلت العقوبة من وسائلها الإجرائية، وذلك ضمن منظومة متكاملة وشاملة من الإجراءات الوقائية، وبما يضمن عدالة العقوبة، وتحقيقها لغرضها في التأديب والتهذيب، والزجر والردع..

          وهذا البعد الوقائي للعقوبة نجده بوضوح في وصايا الخلفاء الراشدين، ومن ذلك قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه:

          "يجب على الوالي أن يتعهد أموره ويتفقد أعوانه حتى لا يخفى عليه إحسان محسن ولا إساءة مسيء، ثم لا يترك أحدهما بغير جزاء، فإنه إذا ترك ذلك تهاون المحسن واجترأ المسيء، وفسد الأمر وضاع العمل" [1] .

          [ ص: 146 ] ومن خلال التأمل في تجربة الإدارة الإسلامية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين، وجدنا أنواعا من العقوبات نفذت بحق العاملين في وظائف الدولة، لاسيما كبار الموظفين كولاة الأمصار، وكبار القادة العسكريين.

          وأهم تلك العقوبات ما يلي:

          1- اللوم والتوبيخ والتقريع:

          والهدف منه إدانة الخطأ في ذاته وعدم السكوت عنه، وإشعار الموظف بخطئه؛ لمنع تكرار الخطأ في المستقبل.

          وفي علم الإدارة الحديثة نجد (لفت النظر الشفهي والكتابي) و(الإنذار الشـفهي والكتابي) حيث يتم إشـعار الموظف بخطئه، وتحذيره من التمادي فيه، وقد يؤخذ عليه تعهد كتـابي بعدم تـكرار الخـطأ مرة أخرى.

          ومع أن هذا الإجراء يعد أدنى درجات العقاب الوظيفي، لكنه مهم جدا في تقويم وتصحيح مسار العمل الوظيفي، ومحاصرة السـلوكيات الخاطئة والفاسدة عند أول ظهورها، ومنع اسـتفحالها وتحولها مع مرور الوقت إلى ظاهرة.

          [ ص: 147 ] وقد مارست الإدارة الإسلامية هذا اللون من العقاب شفويا وكتابيا، ومن أمثلته الشفوية قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا" [2] .

          ومن أمثلته الكتابية الرسالة التي بعث بها الخليفة عمر، رضي الله عنه، إلى عمرو بن العاص واليه على مصر

          "فإنكم أيها الرهط الأمراء جلستم على عيون المال، ثم لم يعوزكم عذر، تجمعون لأبنائكم، وتمهدون لأنفسكم، أما [إنكم] تجمعون العار، وتورثون النار" [3] .

          2- مصادرة ومشاطرة الأموال:

          وهو إجراء عقابي استخدمه الخليفة عمر، رضي الله عنه، مع عدد من الولاة الذين ظهرت عليهم أمارات الثراء، خشية أن يكون ذلك الثراء ناتجا عن استغلال الوظيفة العامة، فمن تعلل منهم بالتجارة وظهر لعمر صدقه في ذلك شاطره ماله، أي أخذ منه نصف الربح وجعله في بيت مال المسلمين، ونهاه أن يعود إلى الجمع بين السلطة والتجارة، ومن لم يظهر لعمر صدقه صادر ماله الزائد كله وجعله في بيت مال المسلمين.

          [ ص: 148 ] وقد سبق معنا في مبحث: "إلزام كبار الموظفين أن يقدموا إقرارا بالذمة المالية"، ومبحث: "منع كبار الموظفين من ممارسة التجارة" تفصيل القول في ذلك، مع ذكر أمثلة عديدة على المصادرة والمشاطرة، وليس ثمة داع لإعادة ذكرها هنا مرة أخرى.

          وعقوبة المصادرة والمشاطرة تدخل تحت بند العقوبات المالية، ولها في الإدارة الحديثة صور متعددة، منها: الحجر على الأموال ومصادرتها، والخصم من الراتب، والحرمان من المكافآت المالية... الخ.

          وفي القوانين المعاصرة هنالك تحديد وتفصيل لأنواع العقوبات المالية على الموظفين، تبعا لنوع المخالفة، التي يرتكبها الموظف [4] .

          3- تخفيض الدرجة أو الرتبة:

          تخفيض درجة أو رتبة الموظف، أو حرمانه من الترقية والترفيـع، أسـلوب عقابي شائع ومتبع في جميع دول العالم، وتحدد قوانين كل بلد الحالات التي تستوجب ذلك، وقد عرفت الإدارة الإسلامية هذا اللون من العقوبة، ومن الأمثلة الشهيرة عليها تخفيض الخليفة عمر، رضي الله عنه، لرتبة خالد بن الوليد، رضي الله عنه، من قائد عام لجيوش المسلمين في الشام، إلى قائد عسكري تحت إمرة أبي عبيدة، رضي الله عنه، [ ص: 149 ] وكتب التاريخ تصف هذه الواقعة بأنها كانت عزلا لخالد، رضي الله عنه [5] ، وهي صـادقة في ذلك فقد عزله الخليفة عمر، رضي الله عنه، وولى مكانه أبا عبيدة، ولكن خالدا بقي مع ذلك يعمل تحت إمرة أبي عبيدة، فما حدث على وجه التحقيق هو أن رتبته قد خفضت من قائد عام للجيش، إلى قائد تحت إمرة أبي عبيدة، ومن وال على الشـام كله، إلى وال على بلدة قنسرين فقط، وقد تقبل خالد القرار برحابة صدر وامتثال كامل لأمر الخليفة.

          وعندما طلب أبو عبيدة من خـالد تنفيذ إحـدى المهام، أجـابه خـالد قائلا:

          "أنا لها إن شاء الله، وما كنت أنتظر إلا أنا تأمرني.

          فقال أبو عبيدة، رضي الله عنه: استحييت منك يا أبا سليمان!

          فقال خالد: والله لو أمـر علي طفل صغير لأطيعن له، فكيف أخالفك وأنت أقدم مني إيمانا، وأسبق إسلاما" [6] .

          ثم إن خالدا، رضي الله عنه، كافأ الأشعث بن قيس بعشرة آلاف درهم، فعزله عمر عن ولاية قنسرين وصادر نصف أمواله، وكان هذا العزل عزلا نهائيا لخالد، فلم يتول بعده أي عمل من أعمال الدولة [7] .

          [ ص: 150 ] 4- العزل:

          العزل أو الفصل من الوظيفة العامة إجراء عقابي متبع، قديما وحديثا.

          وفي القوانين المعاصـرة ما يحدد الحالات التي تسـتوجب فصـل الموظف من عمله، وقد كان الخلفاء الراشـدون يخاطبون كبار موظفي الدولة عند بدء تعيينهم أنهم تحت الاختبار، وأن من أحسن منهم سوف يرقى في عمله، ومن أساء سوف يعزل، كما نجد ذلك في قول أبي بكر الصـديق، رضـي الله عنه، ليزيد بن أبي سـفيان حين ولاه على جيش أرسـله إلى الشام:

          "إني قد وليتك لأبلوك وأجربك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك" [8] .

          وهذه المقولة من أبي بـكر، رضـي الله عنه، تدل على ثـلاثة أمور في غاية الأهمية:

          الأول: أن الموظف له فترة اختبار: "إني قد وليتك لأبلوك وأجربك".

          الثاني: أن الموظف يحاسب بعد مرور تلك الفتـرة، فإن أثبـت جدارته في العمل فإنه يثبت في عمله، ويرقى إلى القيام بأعمال أخرى: "فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك".

          [ ص: 151 ] الثالث: إن فشل الموظف في فترة الاختبار ولم يحسن القيام بالعمل الموكل إليه، يتم عزله؛ أي إقالته من العمل: "وإن أسأت عزلتك".

          ومن الذين عزلهم أبو بكر، رضي الله عنه، خالد بن سعيد بن العاص، عزله عن قيادة جند الشام [9] .

          وأما الخليفة عمر، رضي الله عنه، فقد كان شعاره: "خير لي أن أعزل كل يوم واليا من أبقي ظالما ساعة نهار" [10] .

          وكان يقول: "أهون شيء أصـلح به قوما أن أبـدلهم أميرا مكان أمير" [11] .

          وقد عزل، رضي الله عنه، الكثير من الولاة.. وممن عزلهم:

          أبا هريرة، وأبا موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة، والحارث بن كعب ابن وهب [12] ، وسـعد بن أبي وقاص، والعلاء بن الحضرمي، وعمار بن ياسر، وقدامة بن مظعون، وخالد بن الوليد [13] .

          [ ص: 152 ] وكان عمر، رضي الله عنه، يعزل الوالي إذا وجد من هو أفضل منه لشغل منصب الولاية، فقد عزل شرحبيل بن حسنة عن ولاية الأردن، فقال شرحبيل: "عن سخطة نزعتني؟

          قال: لا، ولكنا رأينا من هو أقوى منك، فتحرجنا من الله أن نقرك وقد رأينا من هو أقوى منك..

          فقال له شرحبيل: فاعذرني..

          فقام عمر على المنبر، فقال:

          كنا استعملنا شرحبيل بن حسنة، ثم نزعناه من غير سخطة وجدتها عليه، ولكنا رأينا من هو أقوى منه، فتحرجنا من الله أن نقره وقد رأينا من هو أقوى منه" [14] .

          كذلك كان يعزل الوالي بناء على شكوى الرعية (المواطنين).. "فحين شكا أهل الكوفة سعد بن أبي وقاص إلى عمر، رضي الله عنه، وزعموا أنه لا يحسن أن يصلي بهم، عزله عمر، رضي الله عنه، مع يقينه بعدم صدق هذه التهمة، ولكنه - رضي الله عنه - فعل ذلك قطعا للفتنة التي قد تقع بسبب كراهية الرعية للوالي وشق عصا الطاعة عليه" [15] .

          [ ص: 153 ] وقد يكون الوالي نزيها أمينا تقيا ورعا، ولكن لديه ضعف في الإدارة السياسية، كما حصل مع عمار بن ياسر، الذي كان واليا على الكوفة، فعزله عمر حينما شكاه أهل الكوفة، وشهد عليه جرير بن عبدالله البجلي بعدم علمه بالسياسة [16] .

          وهكذا، فقد تنوعت أسباب العزل في عهد الخليفة عمر، رضي الله عنه، فكان يعزل لوجود ضعف أو تقصير أو مخالفة، كما كان يعزل مراعاة للمصلحة العامة، أو لدرء الفتنة، ونحو ذلك من المقاصد المعتبرة شرعا.

          ومن خلال ما سبق، يتضح أن الإجراءات العقابية كانت إحدى وسائل السياسة الوقائية في الخبرة الإدارية الإسلامية، وأنها أدت دورها مع مصفوفة الإجراءات الوقائية الأخرى في مكافحة الفساد المالي والإداري، وكانت وسيلة مهمة من وسائل تقويم وتصحيح مسار الوظيفة العامة، وتعزيز الانضباط الوظيفي، ومحاصرة السلبيات والتجاوزات والقضاء عليها في مهدها.



          [ ص: 154 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية