الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا دفع الرجل إلى الرجل مالا مضاربة بالنصف فارتد المضارب ، أو دفعه إليه بعد ما ارتد ، ثم اشترى وباع فربح ، أو وضع ثم قتل على ردته ، أو مات ، أو قتل بدار الحرب جاز جميع ما فعل من ذلك ، والربح بينهما على ما اشترطا ; لأن توقف تصرفاته عند أبي حنيفة - رحمه الله - لتعلق حق ورثته بماله ، أو لتوقف ملكه باعتبار توقف نفسه ، وهذا المعنى لا يوجب تصرفه في مال المضاربة ; لأنه نائب فيه عن رب المال ، وهو [ ص: 128 ] متصرف في منافع نفسه ، ولا حق لورثته في ذلك ; فلهذا نفذ تصرفه ، والعهدة في جميع ما باع واشترى على رب المال في قول أبي حنيفة ; لأن حكم الردة نيط بردته ، وقد بينا ذلك في ردة الوكيل وهذا ; لأنه لو لزمته العهدة لكان قضى ذلك من ماله .

فإذا نحيت العهدة عنه بأن قتل على ردته تعلق بما انتفع بتصرفه بمنزلة الصبي المحجور عليه إذا توكل بالشراء للغير ، أو بالبيع في قول أبي يوسف ومحمد ، وحاله في التصرف بعد الردة كحاله قبل الردة ، فالعهدة عليه ، ويرجع بذلك على رب المال ، وإن كان المضارب امرأة فارتدت ، أوكانت مرتدة حين دفع المال إليها ثم فعلت ذلك ; كانت العهدة عليها كما لو تصرفت لنفسها وهذا ; لأن المرتدة لا توقف نفسها ما دامت في دار الإسلام ولا يوقف مالها أو تصرفها أيضا ، بخلاف المرتد قال : ولو لم يرتد المضارب وارتد رب المال أو كان مرتدا ، ثم اشترى المضارب وباع فربح ، أو وضع ، ثم قتل المرتد أو مات أو لحق بدار الحرب فإن القاضي يجيز البيع ، والشراء على المضاربة والربح له ويضمنه رأس المال في قياس قول أبي حنيفة - رحمه الله - وفي قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - هو على المضاربة ; لأن رب المال حين ارتد فقد توقفت نفسه ، وصار بحيث لا يملك التصرف بنفسه ، فكذلك لا يتملك المضارب التصرف له ، ولكن ينفذ تصرفه في الشراء والبيع على نفسه ، ويضمن ما نقد من مال المضاربة ، وعند أبي يوسف ومحمد : تصرفه نافذ على المضاربة ، ثم على قول أبي حنيفة - رحمه الله - ينفذ شراؤه على نفسه غير مشكل ، ولكن الإشكال في تنفيذ بيعه ، وإنما ينفذ بيعه ; لأن ردة رب المال بعد ما صار المال عروضا كموته ، وقد بينا أنه يملك البيع بعد موت رب المال ، فلا بد من تنفيذ بيعه لذلك ثم شراؤه بعد ذلك بالمال على نفسه .

ولو لم يدفع ذلك إلى القاضي حتى رجع المرتد مسلما ، جاز جميع ذلك على المضاربة كما اشترطا ، وهذا بخلاف الوكالة فإن الموكل إذا ارتد ولحق بدار الحرب ، ثم عاد مسلما جاز جميع ذلك على المضاربة كما اشترطا وهذا بخلاف الوكالة فإن الموكل إذا ارتد ولحق بدار الحرب ثم عاد مسلما لم يعد الوكيل على وكالته .

أما إذا لم يتصل قضاء القاضي بلحاقه ; فلأن هذا بمنزلة الغيبة ، فلا يوجب عزل الوكيل ، ولا بطلان المضاربة ، وأما بعد الالتحاق والقضاء به فالوكيل إنما ينعزل بخروج محل التصرف عن ملك الموكل إلى ملك ورثته ، وذلك مبطل للوكالة ، والوكالة بعد ما بطلت لا تعود إلا بالتجديد ، وهو غير مبطل للمضاربة لمكان حق المضارب ، كما لو مات حقيقة وهذا الفرق فيما ينشأ من التصرف بعد عود رب المال ، فأما فيما كان أنشأ من التصرف ، فإن كان قد قضى [ ص: 129 ] القاضي بلحاقه لا ينفذ ذلك التصرف على المضاربة بعد ما نفذ على المضارب نفسه ، كما لو مات حقيقة فإن كان لم يقض القاضي بلحاقه فهو كما لو غاب ، ثم رجع قبل اللحوق بدار الحرب وأسلم ; فينفذ جميع ذلك على المضاربة .

ولو كان لرب المال امرأة مرتدة كان جميع ذلك جائزا على المضاربة إن أسلمت ، أو لم تسلم ; لأنها تملك التصرف بعد الردة ، فكذلك ينفذ تصرف المضارب لها بعد ردتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية