الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو كانت المضاربة في يده دراهم أو دنانير ، فمات رب المال ، والمضارب في مصر آخر ، وكان رب المال حيا ، فأرسل إليه ينهاه عن الشراء والبيع ، فأقبل المضارب بالمال إلى مصر رب المال ، فهلك في الطريق ، فلا ضمان عليه ; لأنه لا يجد بدا من رد المال عليه ، ولا يتمكن من ذلك ما لم يأت به مصره ، فيسلمه إليه أو إلى ورثته .

( ألا ترى ) أنه لو تركه هناك عند غيره ، وخرج إلى مصر رب المال ، كان مخالفا ضامنا ، وهو بما صنع يتحرز عن الخلاف ، فلا يضمنه لانعدام السبب الموجب للضمان ، فإن سلم حتى قدم ، وقد أنفق منه على سفره ، فهو ضامن للنفقة ; لأن عقد المضاربة لا يبقى بعد موت رب المال ، أو نهيه ، إذا كان المال في يده نقدا ، فإن بقاء العقد ببقاء حق المضارب في المال ، ولا حق له في المال هنا ، فهذا المال بمنزلة الوديعة في يده ، والمودع لا يستوجب النفقة في مال الوديعة .

( ألا ترى ) أنه ليس له أن يشتري به شيئا لرب المال ؟ ولو فعل ذلك كان ضامنا ؟ بخلاف ما إذا كان المال عروضا ، فقد بقي العقد هناك ; لبقاء حق المضارب .

( ألا ترى ) أنه يملك البيع على رب المال ؟ فكذلك يستوجب النفقة في سفر لا بد له منه ، وإذا اشترى المضارب بالمال وباع ، فصار المال دينا على الناس ، ثم أبى أن يتقاضاه ، فإن كان فيه فضل أجبر على أن يتقاضاه ، وإن لم يكن له فيه فضل لم يجبر على أن يتقاضاه ; لأنه إذا كان فيه فضل ، فقد استحق المضارب نصيبه من الربح بعمله ، فيجبر على إكمال العمل كالأجير ، وذلك بالتقاضي حتى يقبض المال ، وإن لم يكن فيه فضل ، فالمضارب كالوكيل في التصرف ، إذا لم يستوجب بإزاء تصرفه شيئا ، والوكيل بالبيع لا يجبر على تقاضي الثمن ، ولكن يؤمر بأن يحيل به الموكل على المشتري ، فكذلك هنا يؤمر بأن يحيل به رب المال على الغرماء ; لأنه لا يتمكن من مطالبتهم إذا لم يعاملهم ، وليس في امتناع المضارب من أن يحيله بالمال عليهم إلا التعنت ، والقصد إلى إتواء ماله ، فيمنع من ذلك .

توضيح الفرق أنه إذا كان في المال فضل ، فلا بد للمضارب من أن يتقاضى نصيبه من الربح ويقبض ، فإذا قبض سلم له ذلك ، ولكنه يؤمر بتسليمه إلى رب المال ، [ ص: 71 ] بحساب رأس المال ; لأنه ما لم يصل رأس المال رب المال ، لا يسلم شيء من الربح للمضارب ، ثم يقبض ثانيا مثله فيسلمه إليه ، فلا يزال هكذا حتى يقبض جميع المال ، فإنه إذا لم يكن في المال فضل ، فلا حاجة بالمضارب إلى تقاضي شيء منه ; إذ لا نصيب له في المال ، فيؤمر أن يحيل به رب المال على الغرماء ، كما يؤمر به الوكيل .

وإن كان فيه فضل وهو في مصره ، فأنفق في تقاضيه ، وخصومة أصحابه ، وطعامه ، وركوبه ، نفقة لم يرجع بها في مال المضاربة ; لأن هذا كله بمنزلة تصرفه في المال ، وقد بينا أنه ما دام يتصرف في مصره ، لا يستوجب النفقة في مال المضاربة ; ولأنه بما صنع يحيي حصة من الربح ، فهو كبيعه العروض في مصره .

وإن كان الدين غائبا عن مصر المضارب ، فأنفق في سفره ، وتقاضيه ما لا بد له منه ، حسب ذلك من مال المضاربة ; لأن سفره وسعيه كان لأجل مال المضاربة ، فتكون نفقته في المال ; كما لو سافر للتصرف في المال ، وبهذا يتبين أن المضارب إذا أنفق في السفر من مال نفسه ، استوجب الرجوع به في مال المضاربة ; لأنه قد لا يجد بدا من ذلك ; بأن لا تصل يده إلى مال المضاربة عند كل حاجة إلى نفقة ، فلا يكون متبرعا فيما ينفق من مال نفسه ; كالوصي يشتري لليتيم ويؤدي الثمن من مال نفسه ، كان له أن يرجع به في مال اليتيم ، إلا أن تزيد نفقة المضارب على الدين ، فلا يرجع بالزيادة على رب المال ; لأن نفقته في مال المضاربة لا في ذمة رب المال فلو استوجب الزيادة ، إنما يستوجبها في ذمة رب المال ; ولأنه إنما يستوجب النفقة ; لأن سعيه لإصلاح مال المضاربة ولمنفعة رب المال ، وهذا المعنى ينعدم في الزيادة على المال .

التالي السابق


الخدمات العلمية