الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو عفا أحدهما فقتله الآخر ينظر إن قتله ولم يعلم بالعفو أو علم به لكنه لم يعلم بالحرمة لا قصاص عليه عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله ، وعند زفر - رحمه الله - عليه القصاص .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أنه قتل نفسا بغير حق ; لأن عصمته عادت بالعفو ، ألا ترى أنه حرم قتله فكانت مضمونة بالقصاص كما لو قتله قبل وجود القتل منه ؟ فلو سقط إنما سقط بالشبهة ، ومطلق الظن لا يورث شبهة كما لو قتل إنسانا .

                                                                                                                                وقال : ظننت أنه قاتل أبي .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن في عصمته شبهة العدم في حق القاتل ; لأنه قتله على ظن أن قتله مباح له ، وهو ظن مبني على نوع دليل ، وهو ما ذكرنا أن القصاص وجب حقا للمقتول ، وكل واحد من الأولياء بسبيل من استيفاء حق وجب للمقتول ، فالعفو من أحدهما ينبغي أن لا يؤثر في حق الآخر ، ولأن سبب ولاية الاستيفاء وجد في حق كل واحد منهما على الكمال ، وهو القرابة فينبغي أن لا يؤثر عفو أحدهما في حق صاحبه ، إلا أنه امتنع هذا الدليل عن العمل بإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ما بينا ، فقيامه يورث شبهة عدم العصمة ، والشبهة في هذا الباب تعمل عمل الحقيقة فتمنع وجوب القصاص ، ويجب عليه نصف الدية ; لأن القصاص إذا تعذر إيجابه للشبهة وجب عليه كمال الدية ، كان على القاتل الدية ، فصار النصف قصاصا بالنصف فيوجب عليه النصف الآخر ، ويكون في ماله لا على العاقلة ; لأنه وجب بالقتل ، وهو عمد ، والعاقلة لا تعقل العمد .

                                                                                                                                وإن علم بالعفو والحرمة يجب عليه القصاص ; لأن المانع من الوجوب الشبهة ، وإنها نشأت عن الظن ، ولم يوجد ، فزال المانع ، وله على المقتول نصف الدية ; لأنه قد كان انقلب نصيبه مالا بعفو صاحبه فبقي ذلك على المقتول ، هذا إذا كان القصاص الواحد مشتركا بينهما فعفا أحدهما عن نصيبه ، فأما إذا وجب لكل واحد منهما قصاص كامل قبل القاتل بأن قتل واحد رجلين فعفا أحدهما عن القاتل لا يسقط قصاص الآخر ; لأن كل واحد منهما استحق عليه قصاصا كاملا ، ولا استحالة له في ذلك ; لأن القتل ليس تفويت الحياة ليقال : إن الحياة الواحدة لا يتصور تفويتها من اثنين بل هو اسم لفعل مؤثر في فوات الحياة عادة ، وهذا يتصور من كل واحد منهما في محل واحد على الكمال ، فعفو أحدهما عن حقه ، وهو القصاص ، لا يؤثر في حق صاحبه بخلاف القصاص الواحد المشترك ، والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا عفا الولي عن القاتل بعد موت وليه .

                                                                                                                                ( فأما ) إذا عفا عنه بعد الجرح قبل الموت فالقياس أن لا يصح عفوه ، وفي الاستحسان يصح .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أن العفو عن القتل يستدعي وجود القتل ، والفعل لا يصير قتلا إلا بفوات الحياة عن المحل ، ولم يوجد ، فالعفو لم يصادف محله فلم يصح ، وللاستحسان وجهان : أحدهما : أن الجرح متى اتصلت به السراية تبين أنه وقع قتلا من حين وجوده ، فكان عفوا عن حق ثابت ، فيصح ، ولهذا لو كان الجرح خطأ فكفر بعد الجرح قبل الموت ثم مات جاز التكفير ، والثاني : أن القتل إن لم يوجد للحال فقد وجد سبب وجوده ، وهو الجرح المفضي إلى فوات الحياة ، والسبب المفضي إلى الشيء يقام مقام ذلك الشيء في أصول الشرع كالنوم مع الحدث ، والنكاح مع الوطء ، وغير ذلك ، ولأنه إذا وجد سبب ، وجود القتل كان العفو تعجيل الحكم بعد وجود سببه ، وإنه جائز ، كالتكفير بعد الجرح قبل الموت في قتل الخطإ ، والله سبحانه وتعالى أعلم وكذلك العفو من المولى واحدا كان أو أكثر ، والعفو من الوارث سواء في جميع ما وصفنا إلا أن في القصاص بين الموليين إذا عفا أحدهما فللآخر حصته من قيمة العبد ، وههنا من الدية ; لأن القيمة في دم العمد كالدية في دم الحر .

                                                                                                                                ( فأما ) فيما وراء ذاك فلا يختلفان ، هذا كله إذا كان العفو من المولى أو من الولي ، فأما إذا كان من المجروح بأن كان المجروح عفا لا يصح عفوه ; لأن القصاص يجب حقا للمولى لا له ، وإن كان حرا ، فإن عفا عن القتل ثم مات [ ص: 249 ] صح استحسانا ، والقياس أن لا يصح .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس ، والاستحسان على نحو ما ذكرنا .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية