الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما ما يرجع إلى المسروق فأنواع : ( منها ) أن يكون مالا مطلقا لا قصور في ماليته ، ولا شبهة ، وهو أن يكون مما يتموله الناس ، ويعدونه مالا ; لأن ذلك يشعر بعزته ، وخطره عندهم ، وما لا يتمولونه فهو تافه حقير ، قد روي عن - سيدتنا - عائشة رضي الله عنها أنها قالت : { لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه } ، وهذا منها بيان شرع متقرر ; ولأن التفاهة تخل في الحرز ; لأن التافه لا يحرز عادة ، أو لا يحرز إحراز الخطر ، والحرز المطلق شرط على ما نذكر .

                                                                                                                                وكذا تخل في الركن ، وهو الأخذ على سبيل الاستخفاء ; لأن أخذ التافه مما لا يستخفي منه فيتمكن الخلل والشبهة في الركن ، والشبهة في باب الحدود ملحقة بالحقيقة ويخرج على هذا مسائل : إذا سرق صبيا حرا لا يقطع ; لأن الحر ليس بمال ، ولو سرق صبيا عبدا لا يتكلم ، ولا يعقل يقطع في قول أبي حنيفة .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف - رحمه الله - : لا يقطع ( ووجهه ) : أن العبد ليس بمال محض ، بل هو مال من وجه ، آدمي من وجه ، فكان محل السرقة من وجه دون وجه ; فلا تثبت المحلية بالشك فلا يقطع كالصبي العاقل .

                                                                                                                                ( ولنا ) أنه مال من كل وجه ; لوجود معنى المالية فيه على الكمال ، ولا يد له على نفسه فيتحقق ركن السرقة - كالبهيمة - وكونه آدميا لا ينفي كونه مالا ، فهو آدمي من كل وجه ، ومال من كل وجه ; لعدم التنافي فيتعلق القطع بسرقته من حيث إنه مال ، لا من حيث إنه آدمي ، بخلاف العاقل ; لأنه وإن كان مالا من كل وجه لكنه في يد نفسه ، فلا يتصور ثبوت يد غيره عليه ; للتنافي فلا يتحقق فيه ركن السرقة : وهو الأخذ ، ولو سرق ميتة ، أو جلد ميتة لم يقطع ; لانعدام المال [ ص: 68 ] ولا يقطع في التبن ، والحشيش ، والقصب ، والحطب ; لأن الناس لا يتمولون هذه الأشياء .

                                                                                                                                ولا يظنون بها ; لعدم عزتها ، وقلة خطرها عندهم ، بل يعدون الظنة بها من باب الخساسة ، فكانت تافهة ، ولا قطع في التراب ، والطين ، والجص ، واللبن ، والنورة ، والآجر ، والفخار ، والزجاج ; لتفاهتها فرق بين التراب ، وبين الخشب ، حيث سوى في التراب بين المعمول منه وغير المعمول ، وفرق في الخشب ; لأن الصنعة في الخشب أخرجته عن حد التفاهة ، والصنعة في التراب لم تخرجه عن كونه تافها ، يعرف ذلك بالرجوع إلى عرف الناس وعاداتهم ، ومن أصحابنا من فصل في الجواب في الزجاج بين المعمول ، وغير المعمول ، كما في الخشب ، ومنهم من سوى بينهما ، وهو الصحيح ; لأن الزجاج بالعمل لم يخرج عن حد التفاهة ; لأنه يتسارع إليه الكسر ، بخلاف الخشب .

                                                                                                                                ولا يقطع في الخشب إلا إذا كان معمولا بأن صنع منه أبوابا ، أو آنية ، ونحو ذلك ما خلا الساج ، والقنا ، والأبنوس ، والصندل ; لأن غير المصنوع من الخشب لا يتمول عادة ، فكان تافها ، وبالصنعة يخرج عن التفاهة فيتمول .

                                                                                                                                وأما الساج ، والأبنوس ، والصندل فأموال لها عزة وخطر عند الناس فكانت أموالا مطلقة .

                                                                                                                                ( وأما ) العاج فقد ذكر محمد : أنه لا يقطع إلا في المعمول منه ، وقيل هذا الجواب في العاج الذي هو من عظم الجمل ، فلا يقطع إلا في المعمول منه ; لأنه لا يتمول لتفاهته ، ويقطع في المعمول ; لخروجه عن حد التفاهة بالصنعة - كالخشب المعمول - فأما ما هو من عظم الفيل فلا يقطع فيه أصلا سواء كان معمولا ، أو غير معمول ; لأن الفقهاء اختلفوا في ماليته .

                                                                                                                                حتى حرم بعضهم بيعه ، والانتفاع به ، فأوجب ذلك قصورا في المالية ، ولا قطع في قصب النشاب ، فإن كان اتخذ منه نشابا قطع ; لما قلنا في الخشب ، ولا قطع في القرون معمولة كانت ، أو غير معمولة ، وقال أبو يوسف : " إن كانت معمولة وهي تساوي عشرة دراهم قطع " قيل إن اختلاف الجواب لاختلاف الموضوع ، فموضوع المسألة على قول أبي حنيفة - رحمه الله - : في قرون الميتة ; لأنها ليست بمال مطلق لاختلاف الفقهاء في ماليتها ، وجواب أبي يوسف - رحمه الله - : في قرون المذكى فلم يوجب القطع في غير المعمول منها ; لأنها من أجزاء الحيوان ، وأوجب في المعمول كما في الخشب المعمول ، وعن محمد في جلود السباع المدبوغة : أنه لا قطع فيها فإن جعلت مصلاة ، أو بساطا قطع ; لأن غير المعمول منها من أجزاء الصيد ولا قطع في الصيد فكذا في أجزائه ، وبالصنعة صارت شيئا آخر فأشبه الخشب المصنوع .

                                                                                                                                وهذا يدل على أن محمدا لم يعتد ، بخلاف من يقول من الفقهاء : إن جلود السباع لا تطهر بالزكاة ، ولا بالدباغ ، ولا قطع في البواري ; لأنها تافهة لتفاهة أصلها وهو القصب ، ولا قطع في سرقة كلب ، ولا فهد ، ولا في سرقة الملاهي : من الطبل ، والدف ، والمزمار ونحوها ; لأن هذه الأشياء مما لا يتمول ، أو في ماليتها قصور ، ألا ترى أنه لا ضمان على كاسر الملاهي عند أبي يوسف ، ومحمد ، ولا على قاتل الكلب ، والفهد عند بعض الفقهاء .

                                                                                                                                ولو سرق مصحفا ، أو صحيفة فيها حديث ، أو عربية ، أو شعر فلا قطع وقال أبو يوسف : يقطع إذا كان يساوي عشرة دراهم ; لأن الناس يدخرونها ويعدونها من نفائس الأموال .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن المصحف الكريم يدخر لا للتمول ، بل للقراءة ، والوقوف على ما يتعلق به مصلحة الدين والدنيا والعمل به ، وكذلك صحيفة الحديث ، وصحيفة العربية ، والشعر يقصد بها معرفة الأمثال والحكم لا التمول .

                                                                                                                                ( وأما ) دفاتر الحساب ففيها القطع إذا بلغت قيمتها نصابا ; لأن ما فيها لا يصلح مقصودا بالأخذ ، فكان المقصود هو قدر البياض من الكاغد ، وكذلك الدفاتر البيض إذا بلغت نصابا ; لما قلنا ، على هذا يخرج ما قال أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله - : " إن كل ما يوجد جنسه تافها مباحا في دار الإسلام فلا قطع فيه ; لأن كل ما كان كذلك فلا عز له ، ولا خطر فلا يتمول الناس ، فكان تافها " ، والاعتماد على معنى التفاهة دون الإباحة ; لما نذكر - إن شاء الله تعالى - ، وعن أبي حنيفة أنه لا قطع في عفص ، ولا إهليلج ، ولا أشنان ولا فحم ; لأن هذه الأشياء مباحة الجنس في دار الإسلام .

                                                                                                                                وهي تافهة ، وروي عن أبي يوسف أنه لا يقطع في العفص ، والإهليلج ، والأدوية اليابسة ، ولا قطع في طير ولا صيد وحشيا كان ، أو غيره ; لأن الطير لا يتمول عادة ، قد روي عن - سيدنا - عثمان ، وسيدنا - علي رضي الله عنهما أنهما قالا : " لا قطع في الطير " ولم ينقل عن غيرهما خلاف ذلك ، فيكون إجماعا ، وكذلك ما علم من الجوارح فصار صيودا فلا قطع على سراقه ; لأنه - وإن علم - فلا يعد مالا وعلى هذا يخرج [ ص: 69 ] النباش أنه لا يقطع فيما أخذ من القبور في قولهما وقال أبو يوسف : يقطع .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أنه أخذ مالا من حرز مثله فيقطع ، كما لو أخذ من البيت ، ولهما أن الكفن ليس بمال ; لأنه لا يتمول بحال ; لأن الطباع السليمة تنفر عنه أشد النفار ، فكان تافها ، ولئن كان مالا ففي ماليته قصور ; لأنه لا ينتفع به مثل ما ينتفع بلباس الحي ، والقصور فوق الشبهة ، ثم الشبهة تنفي وجوب الحد ، فالقصور أولى ، روى الزهري أنه قال : أخذ نباش في زمن مروان بالمدينة فأجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون أنه لا يقطع .

                                                                                                                                وعلى هذا يخرج سرقة ما لا يحتمل الادخار ، ولا يبقى من سنة إلى سنة ، بل يتسارع إليه الفساد أنه لا قطع فيه ; لأن ما لا يحتمل الادخار لا يعد مالا ، فلا قطع في سرقة الطعام الرطب ، والبقول ، والفواكه الرطبة في قولهما ، وعند أبي يوسف يقطع .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أنه مال منتفع به حقيقة ، مباح الانتفاع به شرعا على الإطلاق ، فكان مالا ، فيقطع كما في سائر الأموال ، ولهما أن هذه الأشياء مما لا يتمول عادة ، وإن كانت صالحة للانتفاع بها في الحال ; لأنها لا تحتمل الادخار ، والإمساك إلى زمان حدوث الحوائج في المستقبل ; فقل خطرها عند الناس فكانت تافهة .

                                                                                                                                ولو سرق تمرا من نخل ، أو شجر آخر معلقا فيه فلا قطع عليه ، وإن كان عليه حائط استوثقوا منه وأحرزوه ، أو هناك حائط ; لأن ما على رأس النخل لا يعد مالا ; ولأنه ما دام على رأس الشجر لا يستحكم جفافه فيتسارع إليه الفساد ، قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : لا قطع في ثمر ولا كثر } قال محمد : الثمر ما كان في الشجر ، والكثر الجمار فإن كان قد جذ الثمر ، وجعله في الجرين ، ثم سرق فإن كان قد استحكم جفافه قطع ; لأنه صار مالا مطلقا قابلا للادخار ، وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال { : لا قطع في ثمر ، ولا كثر حتى يؤويه الجرين } فإذا آواه فبلغ ثمن المجن ففيه القطع ; لأنه لا يؤويه الجرين ما لم يستحكم جفافه عادة .

                                                                                                                                فإذا استحكم جفافه لا يتسارع إليه الفساد ، فكان مالا مطلقا ، وكذلك الحنطة إذا كانت في سنبلها فهي بمنزلة الثمر المعلق في الشجر ; لأن الحنطة ما دامت في السنبل لا تعد مالا ، ولا يستحكم جفافها أيضا .

                                                                                                                                ( وأما ) الفاكهة اليابسة التي تبقى من سنة إلى سنة فالصحيح من الرواية عن أبي حنيفة - رحمه الله - : أنه يقطع فيما يتمول الناس إياها ; لقبولها الادخار فانعدم معنى التفاهة المانعة من وجوب القطع .

                                                                                                                                وروي عنه أنه سوى بين رطب الفاكهة ويابسها ، وليست بصحيحة .

                                                                                                                                ولو سرق من الحائط نخلة بأصلها لا يقطع ; لأن أصل النخلة مما لا يتمول ، فكان تافها ، وروينا عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { : لا قطع في ثمر ولا كثر } وقيل في تفسير ذلك : إنه النخل الصغار ، ويقطع في الحناء ، والوسمة ; لأنه لا يتسارع إليه الفساد فلم يختل معنى المالية ، ولا قطع في اللحم الطري ، والصفيق ; لأنه يتسارع إليه الفساد ، وكذلك لا قطع في السمك طريا كان ، أو مالحا ; لأن الناس لا يعدونه مالا لتفاهته ، ولتسارع الفساد إلى الطري منه ، ولما أنه يوجد جنسه مباحا في دار الإسلام ، ولا قطع في اللبن ; لأنه يتسارع إليه الفساد ، فكان تافها ، ويقطع في الخل ، والدبس لعدم التفاهة .

                                                                                                                                ألا ترى أنه لا يتسارع إليهما الفساد ، ولا قطع في : عصير العنب ، ونقيع الزبيب ، ونبيذ التمر ; لأنه يتسارع إليه الفساد ، فكان تافها كاللبن ، ولا قطع في الطلاء وهو المثلث ; لأنه مختلف في إباحته ، وفي كونه مالا ، فكان قاصرا في معنى المالية ، وكذلك المطبوخ أدنى طبخة من نقيع الزبيب ، ونبيذ التمر لاختلاف الفقهاء في إباحة شربه .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية