الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولهذا تنازع الفقهاء في المؤدب المأذون له في أدب غير مقدر، إذا تلف بأدبه، كالزوج إذا ضرب امرأته، والرائض إذا ضرب دابته، فقيل: يضمن ذلك كقول الشافعي; لأنه يتبين بالإتلاف أنه زاد على المأذون.

وقيل: لا يضمن كقول مالك وأحمد; لأن القدر المأذون فيه ليس محدودا، بل هو موكل في اجتهاده، فإذا فعل ما اجتهد فيه لم يكن عليه درك، كالمقتص.

فقد تبين ضعف قول من يذم هذه الأمور مطلقا، ويسوغها مطلقا، ويعلم أن الاعتبار في ذلك بأسبابها المأمور بها والمنهي عنها.

ثم نقول في سائغها: ليس هذا لازما من لوازم الطريق، كفعل المأمور، وترك المحظور، فضلا عن [أن] تكون هي الغاية التي تناقض هذه الأمور وتضادها مأمورا به أمر إيجاب ولا أمر استحباب. فلا يكون من لوازم طريق الله، فإن اللازم لهم إما أن يكون واجبا أو مستحبا. والأحوال التي تكون من لوازم أعمالهم تكون نتيجة واجب أو مستحب، فما ليس بواجب ولا مستحب ولا نتيجة واجب ولا مستحب لا يلزمهم أن يفعلوه، ولا يلزمهم وجوده، فلا يكون من لوازم طريق الله وسبيله، ومنهاج القاصدين إليه، ومنازل السائرين إليه.

وإن عرض لبعضهم وكان له منزلا ومقاما لخصوص حاله; لم يقتض أن يكون لكل سائر; بل ولا هو لازما لكل أحد أن يفعله. [ ص: 179 ]

ولا يجب على أحد في الشريعة أن يفعل ما يغيب به عقله، أو ينقص به قوته، ولكن قد يفعل أمورا يلزم [منها] ضعف عقله ونقص قوة قلبه، فتكون هذه لوازم وجود تلك الأمور; لا أنه يلزمه تحصيل ذلك.

فوجوب تحصيل ذلك لا يثبت في حق أحد، وأما وجوب وجوده فقد يعرض لبعض السالكين دون بعض، ولا يعرض إلا مقرونا بصعق وعجز، والصعق العاجز هو معذور على ما تركه، ليس مأمورا بما تركه.

واعتبر هذا بالأحوال العارضة للناس في سائر ما يحبونه ويطلبونه، منهم من يعرض له في حب الصور والرياسة أو المال ما يذهل لبه ويزيل عقله.

وكذلك قد يعرض له في المخاوف ما يذهل لبه ويزيل عقله، بحيث يبقى مستغرقا في مشهوده وموجوده.

كما يذكرون أن رجلا كان يحب آخر، فألقى المحبوب نفسه في اليم، فألقى المحب نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت، فما الذي أوقعك معي؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أني. وقد ذكرت قبل.

والحكايات في مثل هذا كثيرة. لكن لا يقول عاقل: إن مثل هذا كمال ممدوح مأمور به، لا في حق الممدوح ولا في المذموم. [ ص: 180 ]

وأعظم الخلق محبة لله إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، هذا خليل الله، وهذا خليل الله، ولم يعرض لأحدهما شيء من ذلك.

والمحبون الذين ينالون مقاصدهم مع حفظ عقولهم وبقاء تمييزهم أكمل عند العقلاء من الذين يغلب عليهم الحال حتى يصطلمهم، ويسكرهم، ويفنيهم.

وما أشبه مدح هؤلاء لعدم التمييز والعقل بمدح طائفة يمدحون من لم يفهم معاني القرآن، ولم يتدبره، بل قد أقر بظاهر لفظه، وجهل ما يزيد إفهامهم إياه من معناه، وقد يجعلون ذلك طريق السلف.

وهذا أيضا غلط، فعدم صفات الكمال الممدوحة في القرآن لا يكون مدحا ولا ذما مأمورا به، بل غاية صاحبه أن يكون معذورا.

ولهذا قال عمر بن الخطاب: « لست بخب، ولا يخدعني الخب».

فسلامة القلب المحمودة هي سلامته عن إرادة الشر وقصده، لا عن علمه ومعرفته، بل من عرف الشر وأبغضه وذمه ونهى عنه، فهو أكمل ممن لم يعرفه، ولا أبغضه، ولا نهى عنه، ولا ذمه. [ ص: 181 ]

ومن أعظم كمال الرسول وأمته: أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما قال في صفته: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [الأعراف: 157].

وقال في صفة أمته: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر [آل عمران: 110].

والأمر بالمعروف متضمن لمعرفته ومحبته، والنهي عن المنكر متضمن للعلم به وبغضه.

وأمة محمد هم الشهداء، كما قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [البقرة: 143]. وقال: ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس [العنكبوت: 78].

والشهادة تتضمن العلم بالمشهود به، وإلا فليس لأحد أن يشهد بما لا يعلم.

وقد أخبر عن العارفين من أمة عيسى عليه السلام أنهم: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين [المائدة: 83]. [ ص: 182 ]

قال ابن عباس: « مع محمد وأمته».

وهذا كما قال الحواريون: ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين [آل عمران: 110].

فهؤلاء المؤمنون هم طلبوا ما طلبه قبلهم المؤمنون، بخلاف من كان منهم متبعا للدين المبدل المنسوخ، فإن أولئك فيهم رأفة ورحمة ورهبانية، فلهم عبادة وأخلاق، وليس لهم شهادة، فلهذا كانوا في الضلال، فإن الضلال: عدم العلم، وهو نعتهم، كما قال عنهم: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل [المائدة: 77].

فإن الضلال يورثه اتباع الهوى; لأنه إذا لم يكن معه علم بما يفعله وما يقصده، ومعه حب وإرادة تدعو إلى العمل، كان المحرك له حبه وهواه، سواء كان صادف الحق الذي يرضاه الله، أو كان بخلاف ذلك.

وهذا الموضع غلط فيه من سالكي الطريق من لا يحصي عددهم إلا الله، فإن أول الطريق هو إرادة وحب وطلب، وذلك يثمر من أنواع العبادات والأخلاق والأعمال والأحوال والمقامات ما لا يعلمه إلا الله. [ ص: 183 ]

وقد لا يصحب هذا السالك معرفة المحبوب المعبود المراد، ولا يصحبه معرفة ما يحبه ويرضاه من طاعة رسوله، فيجهل إما المعبود المقصود، وإما العبادة المأمور بها، أو كلاهما.

وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: « المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير».

فالخير عند الله هو الأفضل.

ومن هنا يظهر الوجه الثاني: وهو أن العلم والعقل والشهود، ونحو ذلك، صفات كمال، كما أن القدرة والقوة صفات كمال.

قال تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر: 9]. وقال تعالى: وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور [فاطر: 19 - 21]. وقال تعالى: واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار [ص: 45].

وقد مدح الله جبريل بأنه شديد القوى، وقال: ذي قوة عند ذي العرش مكين [التكوير: 20]. وذم سبحانه من ذمه بقوله: ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [هود: 20].

وقوله: وكانوا لا يستطيعون سمعا [الكهف: 101]. [ ص: 184 ]

وقال تعالى: والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا [الفرقان: 73].

وقال: ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا [الإسراء: 72].

وقال تعالى: والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [النحل: 78].

وقال تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل [الأعراف: 179].

وقال تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [العنكبوت: 43].

وقال: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ص: 29].

وقال: هل في ذلك قسم لذي حجر [الفجر: 5].

وقال: إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [يوسف: 2].

وقال: إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [الرعد: 3]. [ ص: 185 ]

ومثل هذا كثير في كتاب الله.

فالسمع والبصر والعقل والعلم، وما كان من جنس ذلك ولوازمه، هو من الصفات المحمودة، والتذكر والتدبر ونحو ذلك، وكذلك القوة. قال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل [الأنفال: 61].

وفي حديث الاستخارة: « اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك».

وقد أمر الله بالصبر المتضمن لمعنى القوة والثبات، وقرنه بالصلاة في غير موضع، كقوله: واستعينوا بالصبر والصلاة [البقرة: 45]. بل ذكره في كتابه في أكثر من تسعين موضعا.

التالي السابق


الخدمات العلمية