الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولما ظهرت المحنة كان أهل السنة يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. وكانت الجهمية من المعتزلة وغيرهم يقولون: إنه مخلوق.

وكان أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان له فضيلة ومعرفة رد [بها] على الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات، وبين أن الله نفسه فوق [ ص: 86 ] العرش، وبسط الكلام في ذلك، ولم يتخلص من شبهة الجهمية كل التخليص، بل ظن أن الرب لا يتصف بالأمور الاختيارية التي تتعلق [بقدرته ومشيئته، فلا يتكلم] بمشيئته وقدرته، ولا يحب العبد ويرضى عنه بعد إيمانه وطاعته، ولا يغضب عليه ويسخط بعد كفره ومعصيته، بل ما زال محبا راضيا أو غضبان ساخطا على من علم أنه يموت مؤمنا أو كافرا، ولا يتكلم بكلام بعد كلام، وقد قال تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك [آل عمران: 59 - 60]، وقال تعالى: ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم [الأعراف: 11]، وقال تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [آل عمران: 31] وقال تعالى: فلما آسفونا انتقمنا منهم [الزخرف: 55]، وقال تعالى: ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [محمد: 28]، وقال تعالى: هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش [الحديد: 4]، وهذا أصل كبير قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع.

وإنما المقصود هنا التنبيه على مآخذ اختلاف المسلمين في مثل [ ص: 87 ] هذه المسائل، وإذا عرف ذلك فالواجب أن نثبت ما أثبته الكتاب والسنة، وننفي ما نفاه الكتاب والسنة، واللفظ المجمل الذي لم يرد به الكتاب والسنة لا يطلق في النفي والإثبات حتى يبين المراد به.

كما إذا قال القائل: الرب متحيز، أو غير متحيز، أو هو في جهة، أو هو في غير جهة.

قيل: هذه ألفاظ مجملة لم يرد بها الكتاب والسنة لا نفيا ولا إثباتا، ولا نطق أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان بإثباتها ولا نفيها. فإن كان مرادك بقولك: إنه متحيز، أنه محيط به شيء من المخلوقات أو يفتقر إليها، فالله تعالى غني عن كل شيء لا يفتقر إلى العرش ولا إلى غيره من المخلوقات، بل هو بقدرته يحمل العرش وحملته، وكذلك هو العلي الأعلى الكبير العظيم الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو سبحانه أكبر من كل شيء، وليس متحيزا بهذا الاعتبار.

وإن كان مرادك بأنه بائن عن مخلوقاته، علي عليها فوق سمواته على عرشه، فهو سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، كما ذكر ذلك أئمة السنة، مثل عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، [ ص: 88 ] وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أعلام الإسلام، وكما دل على ذلك صحيح المنقول وصريح المعقول، كما هو مبسوط في موضع آخر.

وكذلك لفظ « الجهة» إن أراد بالجهة أمرا موجودا يحيط بالخالق أو يفتقر إليه، فكل موجود سوى الله فهو مخلوق لله، [و] الله خالق كل شيء، وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو غني عن كل ما سواه.

وإن كان مراده أن الله -سبحانه- فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، فهذا معنى صحيح، سواء عبر عنه بلفظ الجهة أو بغير لفظ الجهة.

وكذلك لفظ « الجبر» إذا قال: هذا العبد مجبور، أو غير مجبور؟ قيل له: إن أردت بالجبر أنه ليس له مشيئة، أو ليس له قدرة، أو ليس له فعل فهذا باطل، فإن العبد فاعل لأفعاله الاختيارية، وهو يفعلها بقدرته ومشيئته. وإن أراد بالجبر أن الله خالق مشيئته وقدرته وفعله، فالله خالق ذلك كله.

وكذلك إذا قال: الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ قيل له: ما تريد بالإيمان؟ أتريد به شيئا من صفات الله وكلامه كقوله: لا إله إلا الله [محمد: 19] وإيمانه الذي دل عليه اسمه « المؤمن»، فهذا غير مخلوق، أو [ ص: 89 ] تريد به شيئا من أفعال العباد وصفاتهم؟ فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد المحدث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة، ولا يقول هذا من يتصور ما يقول. فإذا حصل الاستفسار والتفصيل ظهر الهدى وبان السبيل، وقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء.

ومثل هذه المسألة وأمثالها مما كثر فيه نزاع الناس بالنفي والإثبات إذا فصل فيها الخطاب ظهر فيها الخطأ من الصواب. والواجب على الخلق: أن ما أثبته الكتاب والسنة النبوية أثبتوه، وما نفاه الكتاب والسنة نفوه، وما لم ينطق به الكتاب والسنة لا بنفي ولا إثبات فصلوا القول فيه، واستثبتوا القائل، فمن أثبت ما أثبته الله ورسوله فقد أصاب، ومن نفى ما نفاه الله ورسوله فقد أصاب، ومن أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته فقد لبس الحق بالباطل، فيجب أن يفصل ما في كلامه من حق وباطل، فيتبع الحق ويترك الباطل. [ ص: 90 ]

وكل ما خالف الكتاب والسنة فإنه مخالف أيضا لصريح المعقول، فإن العقل الصريح لا يخالف شيئا من النقل الصحيح، كما أن المنقول الثابت عن الأنبياء لا يخالف بعض ذلك بعضا، ولكن كثير من الناس يظن تناقض ذلك، وهؤلاء من الذين اختلفوا في الكتاب وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد [محمد: 16].

ونسأل الله العظيم أن يهدينا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.

التالي السابق


الخدمات العلمية