الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما السفر للتعريف عند بعض القبور، فهذا أعظم من ذلك، فإن هذا بدعة وشرك; فإن أصل السفر لزيارة القبور ليس مشروعا ولا استحبه أحد من العلماء، ولهذا لو نذر ذلك لم يجب عليه الوفاء بلا نزاع بين الأئمة; بخلاف من نذر إتيان بيت المقدس، فإنه يجب إتيانه في أحد القولين ويستحب في الآخر.

ولكن تنازع المتأخرون في السفر لزيارة القبور، فرخص فيه بعضهم، وكرهه آخرون، كابن بطة وابن عقيل وغيرهما، حتى قالوا: إنه سفر معصية فلا يجوز قصر الصلاة فيه; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد». فلا يشرع شد الرحال لزيارة القبور; [ ص: 422 ] ولهذا لم يكن أحد من الصحابة والتابعين -لا بعد أن فتحوا الشام ولا قبل ذلك- يسافرون إلى زيارة قبر الخليل عليه السلام ولا غيره من قبور الأنبياء التي بالشام، ولا زار النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من ذلك ليلة أسري به. بل الذي ثبت في « الصحيح»: أنه صلى ليلة الإسراء، صلى ركعتين ببيت المقدس.

والحديث الذي قيل فيه: « هذا قبر أبيك إبراهيم فانزل فصل فيه، وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى انزل فصل فيه» كذب لا حقيقة له.

وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يسكنون الشام، أو دخلوا إليه ولم يسكنوه مع عمر بن الخطاب رضي الله وغيره، لم يكونوا يرون شيئا من هذه البقاع والآثار المضافة إلى الأنبياء، بل ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان في سفر فرأى قوما يتخذون مكانا يصلون فيه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نريد الصلاة فيه. فقال: ومكان صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم! أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد! إنما هلك من كان قبلكم بهذا، من [ ص: 423 ] أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليمض.

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، ولم يتخذ الصحابة شيئا من آثاره مسجدا، ولا يزار غير ما بناه من المساجد. ولم يكونوا يزورون غار حراء الذي نزل عليه فيه الوحي، ولا غار ثور المذكور في قوله تعالى: ثاني اثنين إذ هما في الغار [التوبة: 40]. ولا مكان ولادته، ولا الشعب الذي حوصر فيه، وأمثال ذلك.

وكذلك إبراهيم الخليل عليه السلام; إنما اتخذوا من آثاره ما شرعه الله لهم من المناسك، ومقامه الذي قال الله فيه: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [البقرة: 125]. مع أنهم لم يكونوا يقبلون المقام ولا يتمسحون به.

والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع، كما قال تعالى: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [الشورى: 21]. ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استلم الحجر الأسود: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. [ ص: 424 ]

هذا، والحديث والزيارة المنسوبة إلى علي رضي الله عنه ليست ثابتة.

وقد أنكر السلف على من سافر لزيارة الطور الذي كلم الله عليه موسى، وهو الوادي المقدس والبقعة المباركة. فكيف بغيره من مقامات الأنبياء؟ حتى إن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظ بزيارته; وإنما صح عنه الصلاة عليه والسلام موافقة لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [الأحزاب: 56]. ولقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في « سنن أبي داود»: « ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام». وفي « سنن أبي داود» عنه عليه السلام أنه قال: « أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة [ ص: 425 ] الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي». قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ أي: بليت، قال: « إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء».

التالي السابق


الخدمات العلمية