الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
مع أنه سئل عن المرأة إذا وقفت في صف الرجال هل تبطل صلاة الرجال الذين يحاذونها؟ فتوقف في ذلك. ومسائل التوقف تخرج على وجهين. [ ص: 93 ]

وتنازع أصحابه في ذلك فقالت طائفة ببطلان الصلاة كمذهب أبي حنيفة، وهو قول أبي بكر وأبي حفص، وقالت طائفة: لا تبطل، كمذهب الشافعي، وهو قول أبي حامد والقاضي وأتباعه. وهذا التفريق بين حال وحال.

وجواز التقدم على الإمام للحاجة هو أظهر الأقوال، فإن جميع واجبات الصلاة تسقط عند العجز وتصلى بدونها، وكذلك ما يشترط للجماعة يسقط بالعجز ويصلى بدونه، كصلاة الخوف التي صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في جماعة، والتزم لأجل الجماعة أمورا لا تجوز لغير الحاجة، مثل تخلف الصف الثاني عن متابعته كما في صلاة عسفان. ومثل مفارقة الطائفة الأولى له قبل سلامه، وانتظار الطائفة الثانية القعود، كما في صلاة ذات الرقاع. ومثل استدبار القبلة والعمل الكثير، كما في حديث ابن عمر إلى أمثال ذلك. [ ص: 94 ]

ومن ذلك المسبوق يقعد لأجل متابعة الإمام مما لو فعله منفردا بطلت صلاته، مثل كونه إذا رآه ساجدا أو منتصبا دخل معه، ومثل كونه يتشهد في أول صلاته دخل معه، فدل على أنه يجوز لأجل الجماعة ما لا يجوز بدون ذلك، ومع هذا فوقوف المأموم عن يسار الإمام للحاجة، ووقوفه وحده خلف الصف للحاجة أحق بالجواز من تقدمه على الإمام للحاجة.

وبهذا تأتلف النصوص جميعها، وعلى ذلك تدل أصول الشريعة، فإن جميع واجبات الصلاة من الطهارة بالماء، واستقبال القبلة، وستر العورة، واجتناب النجاسة، وقراءة القرآن، وتكميل الركوع والسجود، وغير ذلك إذا عجز عنه المصلي سقط، وكانت صلاته بدون هذا الواجب خيرا من تأخير الصلاة عن وقتها فضلا عن تركها، فكذلك الجماعة متى لم تكن إلا بترك واجباتها سقط ذلك الواجب، وكانت الجماعة مع ترك ذلك الواجب خيرا من تفويتها وصلاة الرجل وحده.

ولهذا كان مذهب أحمد وغيره أنهم مع قولهم بالمنع من [الصلاة] خلف الفاسق والمبتدع، يأمرون بأن يصلى خلفه ما يتعذر صلاته خلف غيره كالجمعة والعيدين وطواف الحج، ونحو ذلك من الجمع والجماعات، التي أن تصلى خلف ذلك الفاسق والمبتدع [ ص: 95 ] خير من أن يصلي الرجل وحده.

وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمر الأمير ثم يتبين له فيما بعد أنه كان مذنبا فيعزله، ولا يأمر المسلمين أن يعيدوا ما صلوه خلفه، كما أمر أميرا فلم ينفذ أمره فقال: « ما منعكم أن تنفذوا أمري أو أن تولوا من ينفذ أمري». وإصراره على ترك تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم يقدح في دينه، ولم يأمرهم بإعادة ما صلوه خلفه، وقد أمر الذي أمر أصحابه بدخول النار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « لو دخلوها لما خرجوا منها» ولم يأمرهم بإعادة ما صلوا. والوليد بن عقبة بن أبي معيط ولاه فأنزل الله: إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [الحجرات: 6] لما أخبره بمنع الذين أرسله إليهم بمنع الصدقة. هذا إن كان معه جماعة يصلي بهم.

وقد أخبر عن الأمراء الذين يكونون بعده أنهم يستأثرون ويظلمون الناس، وأنهم يمنعون الناس حقوقهم ويطلبون حقهم، ومع هذا فنهى [ ص: 96 ] عن قتالهم وأمر بالصلاة خلفهم من غير إعادة، حتى إن من كان منهم يؤخر الصلاة عن وقتها أمر المسلمين أن يصلوا الصلاة لوقتها، ويصلوا خلفهم ويجعلوها نافلة. فلم يأمر بالثانية لنقض الأولى لكن لتحصيل الجماعة والنهي عن الفرقة.

وقد صلى أصحابه -كابن عمر وغيره- خلف الحجاج بن يوسف، وخلف الخوارج، وخلف المختار بن أبي عبيد، وأمثال هؤلاء من أهل البدع والفجور، ولم يعد أحد من الصحابة خلفهم، مع أنه قد ثبت في « صحيح مسلم» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « سيكون في ثقيف كذاب ومبير». فالكذاب هو المختار، والمبير هو الحجاج، وقد صلى الصحابة خلف هذا وهذا، ولم يأمر أحد من الصحابة بالإعادة.

التالي السابق


الخدمات العلمية