الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وفاة سقمان بن أرتق

كان فخر الملك بن عمار ، صاحب طرابلس ، قد كاتب سقمان يستدعيه إلى نصرته على الفرنج ، وبذل له المعونة بالمال والرجال ، فبينما هو يتجهز للمسير أتاه كتاب طغتكين ، صاحب دمشق ، يخبره أنه مريض قد أشفى على الموت ، وأنه يخاف إن مات ، وليس بدمشق من يحميها ، أن يملكها الفرنج ، ويستدعيه ليوصي إليه ، وبما يعتمده في حفظ البلد . فلما رأى ذلك أسرع في السير عازما على أخذ دمشق ، وقصد الفرنج في طرابلس ، وإبعادهم عنها ، فوصل إلى القريتين .

واتصل خبره بطغتكين ، فخاف عاقبة ما صنع ، ولقوة فكره زاد مرضه ، ولامه أصحابه على ما فرط في تدبيره ، وخوفوه عاقبة ما فعل ، وقالوا له : قد رأيت سيدك تاج الدولة لما استدعاه إلى دمشق ليمنعه كيف قتله حين وقعت عينه عليه .

فبينما هم يديرون الرأي بأي حيلة يردونه أتاهم الخبر بأنه وصل القريتين ، ومات ، وحمله أصحابه وعادوا به ، فأتاهم فرج لم يحسبوه ، وكان مرضه الذي مات فيه الخوانيق ، يعتريه دائما ، فأشار عليه أصحابه بالعود إلى حصن كيفا ، فامتنع ، وقال : بل أسير ، فإن عوفيت تممت ما عزمت عليه ، ولا يراني الله تثاقلت عن قتال الكفار خوفا من الموت ، وإن أدركني أجلي كنت شهيدا سائرا في جهاد . فساروا ، فاعتقل لسانه يومين ، ومات في صفر ، وبقي ابنه إبراهيم في أصحابه ، وجعل في تابوت وحمل إلى الحصن ، وكان حازما داهيا ، ذا رأي ، كثير الخبر ، وقد ذكرنا سبب أخذه لحصن كيفا .

[ ص: 510 ] وأما ملكه ماردين ، فإن كربوقا خرج من الموصل ، فقصد آمد ، وحارب صاحبها ، فاستنجد صاحبها وهو تركماني ، بسقمان ، فحضر عنده ، وصاف كربوقا .

وكان عماد الدين زنكي بن آقسنقر ، حينئذ ، صبيا قد حضر مع كربوقا ، ومعه جماعة كثيرة من أصحاب أبيه ، فلما اشتد القتال ظهر سقمان ، فألقى أصحاب آقسنقر زنكي ولد صاحبهم بين أرجل الخيل ، وقالوا : قاتلوا عن ابن صاحبكم ! فقاتلوا حينئذ قتالا شديدا ، فانهزم سقمان ، وأسروا ابن أخيه ياقوتي بن أرتق ، فسجنه كربوقا بقلعة ماردين ، وكان صاحبها إنسانا مغنيا للسلطان بركيارق ، فطلب منه ماردين وأعمالها ، فأقطعه إياها ، فبقي ياقوتي في حبسه مدة ، فمضت زوجة أرتق إلى كربوقا وسألته إطلاقه ، فأطلقه ، فنزل عند ماردين ، وكانت قد أعجبته ، فأقام ليعمل في تملكها ، والاستيلاء عليها .

وكان من عند ماردين من الأكراد قد طمعوا في صاحبها المغني ، وأغاروا على أعمال ماردين عدة دفعات ، فراسله ياقوتي يقول : قد صار بيننا مودة وصداقة ، وأريد أن أعمر بلدك بأن أمنع عنه الأكراد ، وأغير على الأماكن ، وآخذ الأموال أنفقها في بلدك وأقيم في الربض ، فأذن له في ذلك ، فجعل يغير من باب خلاط إلى بغداذ ، فصار ينزل معه بعض أجناد القلعة ، طلبا للكسب .

وهو يكرمهم ، ولا يعترضهم ، فأمنوا إليه .

فاتفق أن في بعض الأوقات نزل معه أكثرهم ، فلما عادوا من الغارة أمر بقبضهم وتقييدهم ، وسبقهم إلىالقلعة ، ونادى من بها من أهليهم : إن فتحتم الباب ، وإلا ضربت أعناقهم ، فامتنعوا ، فقتل إنسانا منهم ، فسلم القلعة من بها إليه وبقي بها .

ثم إنه جمع جمعا وسار إلى نصيبين ، وأغار على بلد جزيرة ابن عمر ، وهي لجكرمش ، فلما عاد أصحابه بالغنيمة أتاهم جكرمش ، وكان ياقوتي قد أصابه مرض عجز معه عن لبس السلاح ، وركوب الخيل ، فحمل إلى فرسه فركبه ، وأصابه سهم فسقط منه ، فأتاه جكرمش ، وهو يجود بنفسه ، فبكى عليه ، وقال له : ما حملك على [ ص: 511 ] ما صنعت يا ياقوتي ؟ فلم يجبه ، فمات ، ومضت زوجة أرتق إلى ابنها سقمان ، وجمعت التركمان ، وطلبت بثأر ابن ابنها ، وحصر سقمان نصيبين ، وهي لجكرمش ، فسير جكرمش إلى سقمان مالا كثيرا سرا ، فأخذه ورضي ، وقال : إنه قتل في الحرب ، ولا يعرف قاتله .

وملك ماردين بعد ياقوتي أخوه علي ، وصار في طاعة جكرمش ، واستخلف بها أميرا اسمه علي أيضا ، فأرسل علي الوالي بماردين إلى سقمان يقول له : ابن أخيك يريد أن يسلم ماردين إلى جكرمش ، فسار سقمان بنفسه وتسلمها ، فجاء إليه علي ابن أخيه وطلب إعادة القلعة إليه ، فقال : إنما أخذتها لئلا يخرب البيت ، فأقطعه جبل جور ، ونقله إليه .

وكان جكرمش يعطي عليا كل سنة عشرين ألف دينار ، فلما أخذ عمه سقمان ماردين منه ، أرسل إلى جكرمش يطلب منه المال ، فقال : إنما كنت أعطيتك احتراما لماردين ، وخوفا من مجاورتك ، والآن فاصنع ما أنت صانع ، فلا قدرة لك علي .

التالي السابق


الخدمات العلمية