الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر أحوال الباطنية وقتل ابن عطاش

في هذه السنة ملك السلطان محمد القلعة التي كان الباطنية ملكوها بالقرب من أصبهان ، واسمها شاه دز ، وقتل صاحبها أحمد بن عبد الملك بن عطاش ، وولده ، وكانت هذه القلعة قد بناها ملكشاه ، واستولى عليها بعده أحمد بن عبد الملك بن عطاش .

وسبب ذلك أنه اتصل بدزدار كان لها ، فلما مات استولى أحمد عليها ، وكان الباطنية بأصبهان قد ألبسوه تاجا ، وجمعوا له أموالا ، وإنما فعلوا ذلك به لتقدم أبيه [ ص: 542 ] عبد الملك في مذهبهم ، فإنه كان أديبا بليغا ، حسن الخط ، سريع البديهة ، عفيفا ، وابتلي بحب هذا المذهب ، وكان ابنه أحمد هذا جاهلا لا يعرف شيئا ، وقيل لابن الصباح ، صاحب قلعة ألموت : لماذا تعظم ابن عطاش مع جهله ؟ قال : لمكان أبيه ، لأنه كان أستاذي .

وصار لابن عطاش عدد كثير ، وبأس شديد ، واستفحل أمره بالقلعة ، فكان يرسل أصحابه لقطع الطريق ، وأخذ الأموال ، وقتل من قدروا على قتله ، فقتلوا خلقا كثيرا لا يمكن إحصاؤهم ، وجعلوا له على القرى السلطانية وأملاك الناس ضرائب يأخذونها ليكفوا عنها الأذى ، فتعذر بذلك انتفاع السلطان بقراه ، والناس بأملاكهم ، وتمشى لهم الأمر بالخلف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد .

فلما صفت السلطنة لمحمد ، ولم يبق له منازع ، لم يكن عنده أمر أهم من قصد الباطنية وحربهم ، والانتصاف للمسلمين من جورهم وعسفهم ، فرأى البداية بقلعة أصبهان التي بأيديهم ، لأن الأذى بها أكثر ، وهي متسلطة على سرير ملكه ، فخرج بنفسه فحاصرهم في سادس شعبان .

وكان قد عزم على الخروج أول رجب ، فساء ذلك من يتعصب لهم من العسكر ، فأرجفوا أن قلج أرسلان بن سليمان قد ورد بغداذ وملكها ، وافتعلوا في ذلك مكاتبات ، ثم أظهروا أن خللا قد تجدد بخراسان ، فتوقف السلطان لتحقيق الأمر ، فلما ظهر بطلانه عزم عزيمة مثله ، وقصد حربهم ، وصعد جبلا يقابل القلعة من غربيها ، ونصب له التخت في أعلاه ، واجتمع له من أصبهان وسوادها لحربهم الأمم العظيمة للذحول التي يطالبونهم بها .

وأحاطوا بجبل القلعة ودوره أربعة فراسخ ، ورتب الأمراء لقتالهم ، فكان يقاتلهم كل يوم أمير ، فضاق الأمر بهم ، واشتد الحصار عليهم ، وتعذرت عندهم الأقوات .

فلما اشتد الأمر عليهم كتبوا فتوى فيها : ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين في [ ص: 543 ] قوم يؤمنون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وإن ما جاء به محمد ، صلى الله عليه وسلم ، حق وصدق ، وإنما يخالفون في الإمام : هل يجوز للسلطان مهادنتهم وموادعتهم ، وأن يقبل طاعتهم ، ويحرسهم من كل أذى ؟ فأجاب أكثر الفقهاء بجواز ذلك ، وتوقف بعضهم ، فجمعوا للمناظرة ، ومعهم أبو الحسن علي بن عبد الرحمن السمنجاني ، وهو من شيوخ الشافعية ، فقال ، بمحضر من الناس ، يجب قتالهم ، ولا يجوز إقرارهم بمكانهم ، ولا ينفعهم التلفظ بالشهادتين ، فإنهم يقال لهم : أخبرونا عن إمامكم ، إذا أباح لكم ما حظره الشرع ، أو حظر عليكم ما أباحه الشرع أتقبلون أمره ؟ فإنهم يقولون نعم ، وحينئذ تباح دماؤهم بالإجماع . وطالت المناظرة في ذلك .

ثم إن الباطنية سألوا السلطان أن يرسل إليهم من يناظرهم ، وعينوا على أشخاص من العلماء منهم القاضي أبو العلاء صاعد بن يحيى ، شيخ الحنفية بأصبهان ، وقاضيها ، وغيره ، فصعدوا إليهم وناظروهم ، وعادوا كما صعدوا . وإنما كان قصدهم التعلل والمطاولة ، فلج حينئذ السلطان في حصرهم ، فلما رأوا عين المحاقة ، أذعنوا إلى تسليم القلعة على أن يعطوا عوضا عنها قلعة خالنجان ، وهي على سبعة فراسخ من أصبهان ، وقالوا : إنا نخاف على دمائنا وأموالنا من العامة ، فلا بد من مكان نحتمي به منهم ، فأشير على السلطان بإجابتهم إلى ما طلبوا ، فسألوا أن يؤخرهم إلى النوروز ليرحلوا إلى خالنجان ويسلموا قلعتهم ، وشرطوا أن لا يسمع قول متنصح فيهم ، وإن قال أحد عنهم شيئا سلمه إليهم ، وأن ما أتاه منهم رده إليهم ، فأجابهم إليه ، وطلبوا أن يحمل إليهم من الإقامة ما يكفيهم يوما بيوم ، فأجيبوا إليه في كل هذا ، وقصدهم المطاولة انتظارا لفتق أوحادث يتجدد .

ورتب لهم وزير السلطان سعد الملك ما يحمل إليهم كل يوم من الطعام والفاكهة ، وجميع ما يحتاجون إليه ، فجعلوا هم يرسلون ، ويبتاعون من الأطعمة ما يجمعونه ليمتنعوا في قلعتهم ، ثم إنهم وضعوا من أصحابهم من يقتل أميرا كان يبالغ في قتالهم ، فوثبوا عليه وجرحوه ، وسلم منهم ، فحينئذ أمر السلطان بإخراب قلعة [ ص: 544 ] خالنجان ، وجدد الحصار عليهم ، فطلبوا أن ينزل بعضهم ، ويرسل السلطان معهم من يحميهم إلى أن يصلوا إلى قلعة الناظر بأرجان ، وهي لهم ، وينزل بعضهم ، ويرسل معهم من يوصلهم إلى طبس ، وأن يقيم البقية منهم في ضرس من القلعة ، إلى أن يصل إليهم من يخبرهم بوصول أصحابهم ، فينزلون حينئذ ، ويرسل معهم من يوصلهم إلى ابن الصباح بقلعة ألموت ، فأجيبوا إلى ذلك ، فنزل منهم إلى الناظر ، وإلى طبس ، وساروا ، وتسلم السلطان القلعة وخربها .

ثم إن الذين ساروا إلى قلعة الناظر وطبس وصل منهم من أخبر ابن عطاش بوصولهم ، فلم يسلم السن الذي بقي بيده ، ورأى السلطان منه الغدر ، والعود عن الذي قرره ، فأمر بالزحف إليه ، فزحف الناس عامة ثاني ذي القعدة ، وكان قد قل عنده من يمنع ويقاتل ، فظهر منهم صبر عظيم ، وشجاعة زائدة ، وكان قد استأمن إلى السلطان إنسان من أعيانهم ، فقال لهم : إني أدلكم على عورة لهم ، فأتى بهم إلى جانب لذلك السن لهم لا يرام ، فقال لهم : اصعدوا من هاهنا ، فقيل إنهم قد ضبطوا هذا المكان وشحنوه بالرجال ، فقال : إن الذي ترون أسلحة وكزاغندات قد جعلوها كهيئة الرجال لقلتهم عندهم .

وكان جميع من بقي ثمانين رجلا ، فزحف الناس من هناك ، فصعدوا منه وملكوا الموضع ، وقتل أكثر الباطنية ، واختلط جماعة منهم مع من دخل ، فخرجوا معهم ، وأما ابن عطاش فإنه أخذ أسيرا ، فترك أسبوعا ، ثم أمر به فشهر في جميع البلد ، وسلخ جلده ، فتجلد حتى مات ، وحشي جلده تبنا ، وقتل ولده ، وحمل رأساهما إلى بغداذ ، وألقت زوجته نفسها من رأس القلعة فهلكت ، وكان معها جواهر نفيسة لم يوجد مثلها ، فهلكت أيضا وضاعت ، وكانت مدة البلوى بابن عطاش اثنتي عشرة سنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية