الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مسير الملك مسعود وجيوش بك إلى العراق وما كان بينهما وبين البرسقي ودبيس

في هذه السنة ، في جمادى الأولى ، برز البرسقي ، ونزل بأسفل الرقة في عسكره ومن معه ، وأظهر أنه على قصد الحلة وإجلاء دبيس بن صدقة عنها .

وجمع دبيس جموعا كثيرة من العرب والأكراد ، وفرق الأموال الكثيرة والسلاح .

وكان الملك مسعود بن السلطان محمد بالموصل مع أتابكه أي أبه جيوش بك ، فأشار عليهما جماعة ممن عندهما بقصد العراق فإنه لا مانع دونه فسارا في جيوش كثيرة ، ومع الملك مسعود وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار ، صاحب طرابلس ، وقسيم الدولة زنكي بن آقسنقر جد ملوكنا الآن بالموصل ، وكان من الشجاعة في الغاية ، ومعهم أيضا صاحب سنجار ، وأبو الهيجاء ، صاحب إربل ، وكرباوي بن خراسان التركماني ، صاحب البوازيج . فلما علم البرسقي قربهم خافهم .

[ ص: 631 ] وكان البرسقي قديما قد جعله السلطان محمد أتابك ولده مسعود ، على ما ذكرناه ، وإنما كان خوفه من جيوش بك ، فلما قاربوا بغداذ سار إليهم ليقاتلهم ويصدهم ، فلما علم مسعود وجيوش بك ذلك أرسلا إليه الأمير كرباوي في الصلح ، وأعلمه أنهم إنما جاءوا نجدة له على دبيس ، واصطلحوا ، وتعاهدوا ، واجتمعوا .

ووصل مسعود إلى بغداذ ، ونزل بدار المملكة ، ووصلهم الخبر بوصول الأمير عماد الدين منكبرس ، المقدم ذكره ، في جيش كثير فسار البرسقي عن بغداذ نحوه ليحاربه ويمنعه عنها ، فلما علم به منكبرس قصد النعمانية ، وعبر دجلة هناك ، واجتمع هو ودبيس بن صدقة .

وكان دبيس قد خاف من الملك مسعود البرسقي ، فبنى أمره على المحاجزة والملاطفة ، فأهدى لمسعود هدية حسنة ، وللبرسقي ، وجيوش بك ، فلما وصله خبر وصول منكبرس راسله ، واستماله ، واستحلفه ، واتفقا على التعاضد والتناصر ، واجتمعا ، وكل واحد منهما قوي بصاحبه ، فلما اجتمعا سار الملك مسعود ، والبرسقي ، وجيوش بك ، ومن معهم ، إلى المدائن للقاء دبيس ومنكبرس ، فلما وصلوا المدائن أتتهم الأخبار بكثرة الجمع معهما ، فعاد البرسقي ، والملك مسعود ، وعبرا نهر صرصر ، وحفظا المخاضات عليه ، ونهبت الطائفتان السواد نهبا فاحشا : نهر الملك ، ونهر صرصر ، ونهر عيسى ، وبعض دجيل ، واستباحوا النساء .

فأرسل المسترشد بالله إلى الملك مسعود والبرسقي ينكر هذه الحال ، ويأمرهما بحقن الدماء ، وترك الفساد ، ويأمر بالموادعة والمصالحة ، وكان الرسل : سديد الدولة بن الأنباري ، والإمام الأسعد الميهني ، مدرس النظامية ، فأنكر البرسقي أن يكون جرى منهما شيء من ذلك ، وأجاب إلى العود إلى بغداذ ، فوصل من أخبره أن منكبرس ودبيسا قد جهزا ثلاثة آلاف فارس مع منصور أخي دبيس ، والأمير حسين بن أزبك ، ربيب منكبرس ، وسيروهم ، وعبروا عند درزيجان ليقطعوا مخاضة عند ديالى إلى بغداذ ، لخلوها من عسكر يحميها ويمنع عنها .

فعاد البرسقي إلى بغداذ ، وعبر الجسر لئلا يخاف الناس ، ولم يعلموا الخبر وخلف ابنه عز الدين مسعودا على عسكره بصرصر ، واستصحب معه عماد الدين زنكي بن آقسنقر ، فوصل إلى ديالى ، ومنع عسكر منكبرس من العبور ، فأقام يومين ، [ ص: 632 ] فأتاه كتاب ابنه عز الدين مسعود يخبره أن الصلح قد استقر بين الفريقين ، فانكسر نشاطه ، حيث جرى هذا الأمر ولم يعلم به ، وعاد نحو بغداذ ، وعبر إلى الجانب الغربي ، وعبر منصور وحسين فسارا في عسكرهما خلفه ، فوصلا بغداذ عند نصف الليل ، فنزلا عند جامع السلطان .

وسار البرسقي إلى الملك مسعود فأخذ بركه وماله وعاد إلى بغداذ فخيم عند القنطرة العتيقة ، وأصعد الملك مسعود ، وجيوش بك ، فنزلا عند البيمارستان ، وأصعد دبيس ومنكبرس فخيما تحت الرقة ، وأقام عز الدين مسعود بن البرسقي عند منكبرس منفردا عن أبيه .

وكان سبب هذا الصلح أن جيوش بك كان قد أرسل إلى السلطان محمود يطلب الزيادة له وللملك مسعود ، فوصل كتاب الرسول من العسكر يذكر أنه لقي من السلطان إحسانا كثيرا ، وأنه أقطعهما أذربيجان ، فلما بلغه رحيلهما إلى بغداذ اعتقد أنهما قد عصيا عليه ، فعاد عما كان استقر ، ويقول إن السلطان قد جهز عسكرا إلى الموصل ، فوقع الكتاب بيد منكبرس ، فأرسله إلى جيوش بك ، وضمن له إصلاح السلطان له وللملك مسعود ، وكان منكبرس متزوجا بأم الملك مسعود ، واسمها سرجهان ، وكان يؤثر مصلحته لذلك واستقر الصلح ، وخافا من البرسقي أن يمنع منه ، فاتفقا على إرسال العسكر درزيجان لينفذ في مقابلته البرسقي ليخلو العسكر منه ، ويقع الاتفاق ، فكان الأمر في مسيره على ما تقدم .

وكان البرسقي محبوبا لدى أهل بغداذ لحسن سيرته فيهم ، فلما استقر الصلح ووصلوا إلى بغداذ ، تفرق عن البرسقي أصحابه وجموعه ، وبطل ما كان يحدث به نفسه من التغلب على العراق بغير أمر السلطان ، وسار عن العراق إلى الملك مسعود ، فأقام معه ، واستقر منكبرس في شحنكية بغداذ ، وودعه دبيس بن صدقة ، وعاد إلى الحلة ، بعد أن طالب بدار أبيه بدرب فيروز وكانت قد دخلت في جامع القصر ببغداذ ، فصولح عنها بمال .

وأقام منكبرس ببغداذ يظلم ، ويعسف الرعية ، ويصادرهم ، فاختفى أرباب [ ص: 633 ] الأموال ، وانتقل جماعة إلى حريم دار الخلافة خوفا منه ، وبطلت معايش الناس ، وأكثر أصحابه الفساد ، حتى إن بعض أهل بغداذ زفت إليه امرأة تزوجها ، فعلم بعض أصحاب منكبرس ، فأتاه وكسر الباب وجرح الزوج عدة جراحات ، وابتنى بزوجته ، فكثر الدعاء ليلا ونهارا ، واستغاث الناس لهذه الحال ، وأغلقوا الأسواق ، فأخذ الجندي إلى دار الخلافة فاعتقل أياما ثم أطلق .

وسمع السلطان بما يفعله منكبرس ببغداذ ، فأرسل إليه يستدعيه ، ويحثه على اللحوق به ، وهو يغالط ويدافع ، وكلما طلبه السلطان لج في جمع الأموال والمصادرات . فلما علم أهل بغداذ تغير السلطان عليه ، واستدعاه إياه طمعوا فيه ، فسار حينئذ منكبرس عنهم خوفا أن يثوروا به ، وكفى الناس شره وظهر من كان مستترا .

التالي السابق


الخدمات العلمية