الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 142 ] وإذا عرضنا على العقل الحادث، مع قطع النظر عن أفراده وجنسه: هل يستلزم أن يكون منتهيا منقطعا له ابتداء، أو يستلزم ذلك، بل يمكن دوامه؟ لم تجد في العقل ما يقضي بأن جنس الحادث يجب أن يكون منتهيا له ابتداء.

وهذا الباب من تدبره تبين له الفرق بين تسلسل المؤثرات الفاعلات أنه ممتنع، وبين تسلسل الآثار: أثرا بعد أثر، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع.

والمقصود الفرق بين الزنجي وبين الحادث. ومما يوضح ذلك أنا إذا قلنا: كل زنجي أسود، لم يكن في الزنج ما ليس بأسود؛ لأن هذا النفي يناقص ذلك الإثبات، وصدق أحد المتناقضين اللذين لا يرتفعان يوجب كذب الآخر، فإنا إذا قلنا: بعض الزنج ليس بأسود، كان مناقضا لقولنا: كل زنجي أسود، فإذا لم يكن في الزنج ما ليس بأسود، لزم أن يكون جميعهم سودا، وأما إذا قلنا: كل حادث فله أول يلزم أن لا يكون في الحوادث ما ليس له أول، وهكذا عكس نقيضه، [ ص: 143 ] فيمتنع أن يكون حادث ليس له أول، وهل يلزم من ذلك أن تكون جميع الحوادث ليس لها أول كما لزم أن يكون جميع الزنج سودا؟ هذا محل نزاع.

فيقال: الفرق معلوم بين قولنا: جميع الحوادث لها أول، بمعنى: أن كل واحد منها له أول، وبين قولنا: إن جنس الحوادث لها أول، بمعنى: أن الحوادث منقطعة غير دائمة ولا مستمرة، ولا متسلسلة، فإن العقل يتصور أن كل واحد له أول وآخر، وهي مع ذلك دائمة مستمرة، فيمكنه الحكم بأن كل حادث له أول، كما أن كل زنجي أسود. وهو بعد ذلك لم يعلم: هل هي دائمة أم هي منقطعة؟

بل العلم بكون الحادث له أول، هو العلم بأنه مسبوق بعدم، وليس العلم بأن كل حادث هو مسبوق بعدم، هو العلم بأنه كان العدم مستمرا دائما، حتى حدث جنس الحوادث، بل يمكن العقل أن يتصور أنه ما من حادث إلا وقبله حادث، وبعده حادث، وما من عدد إلا وبعده عدد. وهو يعلم أن كل حادث فله أول، وكل منقض فله آخر، وكل عدد فله حد ومنتهى، وإن لم يكن لجنس العدد حد ومنتهى.

ومما يبين ذلك الفرق: أن كون الشخص أسود وأبيض صفة قائمة به في حال وجوده، فلا يمكن انتفاؤها عن الجنس الموجود، مع قولنا: إن كلا منهم أسود. وأما أن كون الشيء حادثا، أو مسبوقا بعدم، أو موجودا [ ص: 144 ] بعد أن لم يكن، أو له أول، فهو بمنزله كونه ماضيا وملحوقا بعدم، ومعدوما بعد ما كان.

وهذا يقتضي أن كلا من هذه الأمور ثابت لكل واحد من الحادث والمنقضي. أما كون جنس المنقضي انقطع، فلا يكون بعده منقض، أو كون جنس الحوادث منقطعا، فلم يكن قبل الحوادث المعينة شيء حادث، هذا نوع آخر.

والحكم على كل فرد فرد، غير الحكم على المجموع، من حيث هو مجموع في النفي والإثبات، ففي النفي نفرق بين قوله: لا تأكل هذا ولا هذا، ولا تأكل السمك وتشرب اللبن؛ إذ الأول نهى عن كل منهما، والثاني نهى عن جميعها.

التالي السابق


الخدمات العلمية