الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقولهم: إن الفرق بين ما مضى وبين ما يأتي: أن ما يأتي لم يدخل في [ ص: 95 ] الوجود بعد، وأن مضى قد انصرم وانقضى، وما انصرم وانقضى فواجب أن يدخل في الوجود، فهو متناه -قول حق، إلا أن الوضع الذي يضعه خصماؤهم في الدورات ليس بهذه الصفة، وذلك أنه لم يكن هناك حركة، واجب أن تكون أولى يستحيل أن تكون قبلها حركة، فليس يجب أن يكون ها هنا جملة، هي أول جملة دخلت في الوجود، ولا جزء منها هو أول جزء دخل في الوجود. والذي دخل منها في الوجود إنما هو شخص واحد أو أشخاص متناهية، إن كانت من الأشياء التي يوجد منها أكثر من شخص واحد. وذلك على جهة التعاقب على محل واحد.

فمن أين يلزم -ليت شعري- إن كان الداخل منها في الوجود إنما هو واحد، وقبله واحد، أن يكون هاهنا جملة غير متناهية دخلت في الوجود معا؟. [ ص: 96 ]

والأصل في هذا كله أن لا يدخل في الوجود إلا ما انقضى وجوده، وما انقضى وجوده ولا ينقضي إلا ما ابتدئ وجوده، وإنما كان يلزم أن يدخل في الوجود ما لا نهاية له الماضي في الوجود، لو كان دخوله معا، أعني ما لا نهاية له، وأما الداخل فيه شخص فشخص على محل واحد، وكأنك قلت على الجسم الدوري وليس هناك أول، فليس يجب أن يكون ما دخل منها في الوجود منحصرا أو متناهيا؛ لأن المتناهي هو الذي يمكن يزاد عليه شيء، وأي جملة فرضناها متناهية فإنه يمكن أن يكون فيها جملة قبلها جملة أخرى. هذا هو حد ما لا نهاية له الجائز الوجود، أعني أن يكون أبدا يوجد شيء خارج عنه، ويسألون: كما أن تقدير وجود الباري سبحانه وتعالى في الماضي غير متناه، وكما أن تقدير وجوده في المستقبل غير متناه - وهذا معنى قولنا لم يزل ولا يزال: هل تقدر أفعاله في الماضي متناهية أو غير متناهية؟. [ ص: 97 ]

فإن قالوا: غير متناهية، كما هو في المستقبل، فقد اعترفوا بوجود ما لا نهاية له في الماضي، على الشرط الذي يوجد عليه ما لا نهاية له، أعني أن لا يوجد معا، وأن لا ينقطع الإمكان.

وإن قالوا غير ذلك فقد أحالوا على الوجود الأزلي أن تكون أفعاله أزلية، ويلزمهم ذلك في علمه بالحادثات وإرادته لها، فتكون معلوماته بالفعل متناهية، وكذا إرادته وبالقوة غير متناهية.

أما في الماضي فمن قبل أنه لا يجوز عندهم أن تكون أفعال لا نهاية لها، وأما في المستقبل فمن قبل أن ما لا نهاية له إنما يوجد عندهم بالقوة، وذلك شيء لا يقولونه. فإن قالوا: إرادته ومعلوماته غير متناهية بالفعل فقد سلموا دخول ما لا نهاية له بالفعل في الوجود.

قال: (وهذا كله تشويش لعقائد المتشرعين، وصد عن الغاية التي قصد بها تعريفهم هذه الأشياء، وهو أن يكونوا مصممين في هذه الأشياء أخيارا، فإن من ليس بمصمم العقيدة في هذه ليس بخير). [ ص: 98 ]

قلت: قول القائل: هذا متناه أو غير متناه لفظ مجمل، يراد به ما لا يتناهى من أوله ولا من آخره، فلا يمكن أن يزاد عليه، وهذا هو مراد ابن رشد بما لا يتناهى من أوله فقط، أو من آخره فقط، كالحوادث الماضية إذا قيل: لا تتناهى، فإنه لا نهاية له من جهة الابتداء، بمعنى أنه لا ابتداء لها، ولكن إذا قدر أنها انقضت اليوم فقد تناهت من هذا الطرف.

التالي السابق


الخدمات العلمية