الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3443 [ ص: 165 ] 143 - حدثنا علي بن عبد الله، أخبرنا سفيان، حدثنا شبيب بن غرقدة قال: سمعت الحي يحدثون عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه. قال سفيان: كان الحسن بن عمارة جاءنا بهذا الحديث عنه قال: سمعه شبيب من عروة فأتيته فقال شبيب: إني لم أسمعه من عروة قال: سمعت الحي يخبرونه عنه، ولكن سمعته يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة. قال: وقد رأيت في داره سبعين فرسا، قال سفيان: يشتري له شاة كأنها أضحية.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  فيه من علامات النبوة ما في قوله: " فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح فيه " يظهر ذلك عند التأمل.

                                                                                                                                                                                  (ذكر رجاله) وهم خمسة: الأول علي بن عبد الله المعروف بابن المديني. الثاني سفيان بن عيينة. الثالث: شبيب بفتح الشين المعجمة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره باء موحدة أخرى ابن غرقدة بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وفتح القاف السلمي الكوفي من صغار التابعين الثقات، وما له في البخاري غير هذا الحديث.

                                                                                                                                                                                  الرابع عروة بن الجعد أو ابن أبي الجعد البارقي بالباء الموحدة نسبة إلى بارق جبل باليمن الصحابي، قال الشعبي: أول من قضى على الكوفة عروة بن الجعد البارقي، ويقال: إن عمر رضي الله تعالى عنه استعمله على الكوفة قبل أن يستقضي شريحا رضي الله تعالى عنه. الخامس الحسن بن عمارة بضم العين المهملة وتخفيف الميم ابن المضرب البجلي الكوفي الفقيه كان على قضاء بغداد في خلافة أبي جعفر المنصور، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، وقال بعضهم: الحسن بن عمارة أحد الفقهاء المتفق على ضعف حديثهم قلت: سفيان الثوري من أقرانه، وروى عنه أيضا سفيان بن عيينة وعبد الرزاق بن همام وأبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن الشيباني، ويحيى بن سعيد القطان، وآخرون من أكابر المحدثين.

                                                                                                                                                                                  وفي التهذيب قال عيسى بن يونس الرملي الفاخوري: سمعت أيوب بن سويد يقول: كنت عند سفيان الثوري فذكر الحسن بن عمارة فغمزه فقلت له: يا أبا عبد الله، هو عندي خير منك. قال: وكيف ذاك؟ قلت: جلست منه غير مرة فيجري ذكرك فما يذكرك إلا بخير. قال أيوب: ما ذكر سفيان الحسن بن عمارة بعد ذلك إلا بخير حتى فارقته.

                                                                                                                                                                                  وقال الطحاوي: حدثنا أحمد بن عبد المؤمن المروزي قال: سمعت علي بن يونس المروزي يقول: سمعت جرير بن عبد الحميد يقول: ما ظننت أني أعيش إلى دهر يحدث فيه عن محمد بن إسحاق ويسكت فيه عن الحسن بن عمارة.

                                                                                                                                                                                  (ذكر من أخرجه غيره) أخرجه أبو داود في البيوع عن مسدد، وعن الحسن بن الصباح. وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن سعيد الدارمي. وأخرجه ابن ماجه في الأحكام عن أحمد بن سعيد وعن أبي بكر بن أبي شيبة، وأما حديث الخيل فقد أخرجه البخاري في الجهاد وفي الخمس، وقد ذكرنا هناك ما يتعلق به.

                                                                                                                                                                                  (ذكر معناه). قوله: " سمعت الحي " أي: قبيلته المنسوبين إلى بارق، نزله بنو سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو بن عامر مزيقياء، وهذه العبارة تقتضي أن يكون سمعه من جماعة وأقلهم ثلاثة. وقال الخطابي والبيهقي وآخرون: هذا الحديث غير متصل لأن أحدا من الحي لم يسم. وفي التوضيح: وفيه جهالة الحي كما ترى فهو غير متصل، والشافعي توقف فيه في بيع الفضولي وقال: إن صح قلت به، كذا في البويطي. وحكى المزني عن الشافعي أنه حديث ليس بثابت عنده. قال البيهقي : وإنما ضعفه الشافعي؛ لأن شبيب بن غرقدة رواه عن الحي وهم غير معروفين، وفي موضع آخر: إنما قال الشافعي لما في إسناده من الإرسال، وهو أن شبيب بن غرقدة لم يسمعه من عروة البارقي إنما سمعه من الحي يخبرونه عنه، وقال في موضع آخر: الحي الذي أخبر شبيب بن غرقدة عن عروة لا نعرفهم، وليس هذا من شرط أصحاب الحديث في قبول الأخبار، وقال المنذري في اختصاره للسنن [ ص: 166 ] تخريج البخاري لهذا الحديث في صدر حديث: الخير معقود في نواصي الخيل، يحتمل أن يكون سمعه من علي بن المديني على التمام فحدث به كما سمعه، وذكر فيه إنكار شبيب سماعه من عروة حديث الشاة، وإنما سمعه من الحي عن عروة، وإنما سمع من عروة قوله -صلى الله عليه وسلم-: " الخير معقود بنواصي الخيل " ويشبه أن الحديث لو كان على شرطه لأخرجه في البيوع والوكالة كما جرت عادته في الحديث الذي يشتمل على أحكام أن يذكره في الأبواب التي تصلح له ولم يخرجه إلا هنا، وذكر بعده حديث: الخيل... من رواية ابن عمر وأنس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم، فدل ذلك على أن مراده حديث: الخيل... فقط؛ إذ هو على شرطه، وقد أخرج مسلم حديث شبيب بن غرقدة، عن عروة مقتصرا على ذكر الخيل ولم يذكر حديث الشاة. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): قوله: فدل ذلك أن مراده حديث: الخيل... فقط إذ هو على شرطه فيه نظر؛ لأنه لو كان الأمر كما ذكره ينكر عليه ذكره بين أبواب علامات النبوة؛ لعدم المناسبة من كل وجه.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني : (فإن قلت): فالحديث من رواية المجاهيل إذ الحي مجهول، قلت: إذا علم أن شبيبا لا يروي إلا عن عدل فلا بأس به، أو لما كان ذلك ثابتا بالطريق المعين المعلوم اعتمد على ذلك فلم يبال بهذا الإبهام أو أراد نقله بوجه آكد؛ إذ فيه إشعار بأنه لم يسمع من رجل واحد فقط، بل من جماعة متعددة، ربما يفيد خبرهم القطع به. انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: كلامه يدل على أن الحديث المذكور متصل عنده، وأن الجهالة بهذا الوجه غير مانعة من القول بالاتصال، وأن الراوي إذا كان معروفا عندهم بأنه لا يروي إلا عن عدل، فإذا روى عن مجهول لا يضره ذلك، وأن الرواية عن جماعة مجهولين ليست كالرواية عن مجهول واحد.

                                                                                                                                                                                  قوله: " أعطاه دينارا " أي: أعطى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لعروة دينارا ليشتري له به شاة، وفي رواية أحمد وغيره عن عروة بن الجعد قال: عرض للنبي -صلى الله عليه وسلم- جلب فأعطاني دينارا فقال: أي عروة، ائت الجلب فاشتر لنا شاة، قال: فأتيت الجلب فساومت صاحبه فاشتريت منه شاتين بدينار. قوله: " فدعا له بالبركة في بيعه " وفي رواية أحمد فقال: " اللهم بارك له في صفقته ". قوله: " وكان لو اشترى التراب لربح فيه " وفي رواية أحمد قال: " لقد رأيتني أقف بكناسة الكوفة فأربح أربعين ألفا قبل أن أصل إلى أهلي " قال: وكان يشتري الجواري ويبيع.

                                                                                                                                                                                  قوله: " قال سفيان " يعني ابن عيينة وهو موصول بالإسناد المذكور. قوله: " كان الحسن بن عمارة جاءنا بهذا الحديث " أي: الحديث المذكور عنه أي: عن شبيب بن غرقدة، وقد ذكرنا عن قريب ترجمة الحسن، وما للحسن في البخاري إلا هذا الموضع. قوله: " قال " أي: الحسن بن عمارة سمعه شبيب عن عروة. قوله: " فأتيته " أي: قال سفيان: أتيت شبيبا فلما جاء سأله قال شبيب: إني لم أسمعه أي: الحديث من عروة، قال أي: عروة: سمعت الحي يخبرونه عنه أي: يخبرون الحديث عن عروة، وقال بعضهم: أراد البخاري بذلك بيان ضعف رواية الحسن بن عمارة، وأن شبيبا لم يسمع الخبر من عروة، وإنما سمعه من الحي، ولم يسمع عن عروة، فالحديث بهذا ضعيف للجهل بحالهم. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): لم تجر عادة البخاري أن يذكر في صحيحه حديثا ضعيفا، ثم يشير إليه بالضعف، ولو ثبت عنده ضعفه لاكتفى بحديث الخيل كما اكتفى به مسلم في صحيحه، والكلام في سماعه من الحي قد مر عن قريب على أنه قد وجد له متابع من رواية أحمد وأبي داود والترمذي، وابن ماجه من طريق سعيد بن زيد، عن الزبير بن الخريت، عن أبي لبيد قال: حدثني عروة البارقي قال: " دفع إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دينارا لأشتري له شاة فاشتريت له شاتين، فبعت إحداهما بدينار وجئت بالشاة والدينار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكر له ما كان من أمره فقال له: " بارك الله لك في صفقة يمينك " الحديث.

                                                                                                                                                                                  (فإن قلت): سعيد بن زيد ضعيف ضعفه يحيى القطان، وأبو الوليد ليس بمعروف العدالة، قلت: سعيد بن زيد من رجال مسلم، واستشهد به البخاري ووثقه جماعة، وأبو لبيد اسمه لمازة بضم اللام ابن زبار بفتح الزاي وتشديد الباء الموحدة، وقد ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية، وقال: سمع من علي وكان ثقة، وقال أحمد: صالح الحديث وأثنى عليه ثناء حسنا.

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني: (فإن قلت): الحسن بن عمارة كاذب يكذب فكيف جاز النقل عنه؟

                                                                                                                                                                                  (قلت): ما أثبت شيء بقوله من هذا الحديث، مع احتمال أنه قال ذلك بناء على ظنه. انتهى.

                                                                                                                                                                                  (قلت): قد أبشع في العبارة فلم يكن من دأب أهل العلم أن يذكر شخصا عالما باتفاقهم فقيها متقدما في زمانه علما ورئاسة بهذه العبارة الفاحشة، ولكن الداعي في ذلك له ولأمثاله أريحية التعصب بالباطل، وقد ذكرنا عن قريب ما قاله جرير بن عبد الحميد من الثناء عليه. قوله: " قال سفيان: يشتري له شاة " أي: قال [ ص: 167 ] سفيان بن عيينة أيضا وهو أيضا موصول بالإسناد الأول. قوله: " في داره " أي: في دار عروة، والقائل بالرؤية هو شبيب. قوله: " له " أي: لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: " كأنها أضحية " الظاهر أن هذه اللفظة مدرجة من سفيان، وقد احتج بالحديث المذكور وأبو حنيفة وإسحاق ومالك في المشهور عنه على جواز بيع الفضولي؛ لأن عروة لم يكن وكيلا إلا في الشراء. وقال الكرماني: والجواب عنه احتمال أن يكون وكيلا مطلقا في البيع والشراء انتهى. قلت: هذا عجيب يترك الظاهر حقيقة، ويعمل بالاحتمال. وعن الشافعي قولان في بيع الفضولي، وقد ذكرناه عن قريب، وفي التوضيح واختلف قول المالكية فيما إذا أمر بشراء سلعة بكذا فوجد سلعتين في صفة ما أمر به، وثمنهما ما أمر أن يشتري به واحدة، وقد رضي بشراء واحدة به، فقال ابن القاسم: الآمر مخير إن شاء أخذ واحدة بحصتها من الثمن ويرجع ببقية الثمن على المأمور، وإن شاء أخذهما جميعا، وقال أصبغ عند ابن حبيب: تلزمان الآمر جميعا، وقال عبد الملك في مبسوطه: إن شاء الآمر أخذهما جميعا أو تركهما جميعا.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية