الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3653 349 - حدثنا يحيى بن سليمان قال : حدثني ابن وهب قال : حدثني عمر أن سالما حدثه عن عبد الله بن عمر قال : ما سمعت عمر لشيء قط يقول : إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن ، بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل ، فقال عمر : لقد أخطأ ظني ، أو إن هذا على دينه في الجاهلية ، أو لقد كان كاهنهم ، علي الرجل ، فدعي له ، فقال له ذلك ، فقال : ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم ، قال : فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني ؟ قال : كنت كاهنهم في الجاهلية قال : فما أعجب ما جاءتك به جنيتك ؟ قال : بينما أنا يوما في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع ، فقالت : ألم تر الجن وإبلاسها ، ويأسها من بعد إنكاسها ، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ؟ قال عمر : صدق ، بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه ، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه يقول : يا جليح ، أمر نجيح ، رجل فصيح يقول : لا إله إلا الله ، فوثب القوم ، قلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ، ثم نادى يا جليح ، أمر نجيح ، رجل فصيح يقول : لا إله إلا الله ، فقمت فما نشبنا أن قيل هذا نبي .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وجه ذكر هذا الحديث في هذا الباب ما قبل أن القصة التي في هذا الحديث ، هي التي كانت سببا لإسلام عمر رضي الله عنه ، ويحيى شيخ البخاري ، وابن وهب قد مر ذكرهما عن قريب وعمر هو محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وقال الكلاباذي : أي هو عمرو بالواو ابن الحارث ، قيل : هو وهم ، وهو من أفراده .

                                                                                                                                                                                  قوله : " لشيء " قال بعضهم : أي عن شيء ، واللام قد تأتي بمعنى عن ، كقوله تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا قلت : لا حاجة إلى العدول عن معناه الذي هو للتعليل : أي لأجل شيء . قوله : " إلا كان كما يظن " ; لأنه كان من المحدثين ، وقد تقدم في مناقبه أنه كان محدثا بفتح الدال ، وقد ذكرنا أن معنى المحدثين الملهمون ، والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدسا وفراسة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " بينما عمر " قد ذكرنا غير مرة أن أصله بين ، فزيدت فيه ما ، ويضاف إلى جملة اسمية ، وهي قوله : " عمر جالس " ، وقوله : " إذ مر به " جواب بينما ، قوله : " رجل جميل " ، وهو سواد بفتح السين المهملة وتخفيف الواو ابن قارب بالقاف والراء المكسورة ، وفي آخره باء موحدة الدوسي ، كذا قال الكلبي ، وقال ابن أبي خيثمة : سواد بن قارب الدوسي من بني دوس ، قال أبو حاتم : له صحبة ، وقال عمر : كان يتكهن في الجاهلية ، وكان شاعرا ، ثم أسلم ، وداعبه عمر بن الخطاب يوما ، وقال ما فعلت كهانتك يا سواد ؟ فغضب ، وقال : ما كنا عليه نحن وأنت يا عمر من جاهليتنا ، وكفرنا شر من الكهانة ، فما لك تعيرني بشيء تبت منه ، وأرجو من الله العفو عنه ! قوله : " لقد أخطأ ظني " أي في [ ص: 7 ] كونه في الجاهلية بأن صار مسلما . قوله : " أو " بسكون الواو : أي أو إن هذا يعني سواد بن قارب مستمر على دينه في الجاهلية ، يعني على عبادة ما كانوا يعبدون . قوله : " لقد كان كاهنهم " : أي كاهن قومه . قوله : " علي " بتشديد الياء . قوله : " الرجل " بالنصب : أي أحضروه إلي وقربوه مني . قوله : " فدعي به " على صيغة المجهول : أي دعي بالرجل وهو سواد بن قارب ، ويروى فدعي له ، فإن صحت هذه الرواية يكون الضمير في قوله : " له " راجعا إلى عمر رضي الله تعالى عنه : أي دعي الرجل لأجله . قوله : " فقال له ذلك " : أي قال له عمر وذلك إشارة إلى ما قاله في غيبته قبل أن يحضر بين يديه من التردد بقوله : " أو " في الموضعين .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية محمد بن كعب فقال : فأنت على ما كنت عليه من كهانتك ، فغضب سواد ، واقتصر عمر هنا على أخف الأمرين ، وهما الكهانة والشرك تلطفا به . قوله : " ما رأيت كاليوم " : أي ما رأيت يوما مثل هذا اليوم ; حيث استقبل به : أي فيه رجل مسلم ، وارتفاع رجل بقوله : " استقبل " الذي هو على صيغة البناء للفاعل ، وقال الكرماني : استقبل على صيغة المجهول فعلى هذا قوله : " الرجل " مرفوع أيضا ; لأن الفعل مستند إليه ، والباء في به بمعنى في أيضا ، والضمير يرجع إلى اليوم .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية النسفي ، وأبي ذر : " رجلا مسلما " بالنصب ، وقال الكرماني : رجلا منصوب لأنه مفعول رأيت ، وفي القلب من هذا دغدغة على ما لا يخفى إن كان مراده رأيت المصرح به في الحديث ، فإن قدر لفظ رأيت آخر يكون موجها ، تقديره حينئذ ما رأيت يوما مثل هذا اليوم ، رأيت استقبل به : أي بالكلام المذكور رجلا مسلما .

                                                                                                                                                                                  قوله : " استقبل به " جملة معترضة بين الفاعل والمفعول ، وحاصل المعنى ما رأيت كاليوم رأيت فيه رجلا استقبل به : أي في اليوم ، ورأيت الشراح فيه عاجزين ، فمنهم من لم يتعرض إلى شيء ما ، كأنه ما اطلع على المتن ، ومنهم من تصرف فيه بالتعسف . قوله : " فإني أعزم " : أي قال سواد بن قارب : كنت كاهن القوم ، والكاهن هو الذي يتعاطى الأخبار المغيبة ، ويخبر بها ، وكان في العرب في الجاهلية كهان كثير ، وأكثرهم كان يعتمد على تابعه من الجن ، وأما الذي كان يدعي معرفة ذلك بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله فهو الذي يسمى عرافا .

                                                                                                                                                                                  قوله : " فما أعجب " ، كلمة ما استفهامية ، وأعجب بالرفع ; أي أي شيء أعجب ؟ قوله : " ما جاءت به " ، كلمة ما يجوز أن تكون موصولة بدلا من كلمة ما في فما أعجب ، ويجوز أن تكون مصدرية ، والتقدير أي شيء أعجب من مجيء جنيتك بالأخبار ، والجنية تأنيث الجني ، وأنثه تحقيرا له ، وقيل : يحتمل أن يكون قد عرف أن تابع سواد من الجن أنثى ، أو هو كما يقال تابع الذكر أنثى ، وتابع الأنثى الذكر .

                                                                                                                                                                                  قوله : " جاءتني " أي الجنية . قوله : " الفزع " بفتح الفاء والزاي الخوف ، وفي رواية محمد بن كعب أن ذلك كان وهو بين النائم واليقظان . قوله : " فقالت " : أي الجنية . قوله : " ألم تر الجن إلى آخره " من الرجز ، والجن منصوب بقوله : " ألم تر " . قوله : " وإبلاسها " بالنصب عطفا على ما قبله ، وإبلاس بكسر الهمزة وسكون الباء الموحدة ، وقال ابن الأثير : الإبلاس الحيرة ، ومنه الحديث : ألم تر الجن وإبلاسها : أي تحيرها ، وقال الكرماني : إبلاسها أي انكسارها ، وقال غيره : صيرورتها مثل إبليس حائرا بائرا . قوله : " ويأسها " بالنصب أيضا عطفا على ما قبله ، واليأس بالياء آخر الحروف ضد الرجاء . قوله : " من بعد إنكاسها " بكسر الهمزة وسكون النون : أي من بعد انتكاسها ، والانتكاس الانقلاب على الرأس ، ويروى من بعد أنساكها بفتح الهمزة ، قال ابن الأثير : هكذا جاء في رواية : أي متعبداتها ، وقال ابن فارس : الأنساك جمع نسك وهو المكان الذي يألفه ، أراد أنها يئست من السمع بعد أن كانت ألفته ، وروى الداودي من بعد إيناسها ، وقال : يعني كانت تأنس إلى ما تسمع . قوله : " ولحوقها " بالنصب عطفا على إبلاسها ، ويجوز بالجر عطفا على إنكاسها . قوله : " بالقلاص " بكسر القاف وهو جمع قلوص ، وهي الناقة الشابة ، وقال الكرماني : وأريد بالقلاص أهل القلاص ، وهم العرب على طريق الكناية ، وقال غيره : أراد تفرقهم ونفارهم كراهية الإسلام . قوله : " وأحلاسها " بفتح الهمزة جمع حلس بكسر الحاء المهملة وسكون اللام ، وهو كساء رقيق يوضع تحت البردعة رعاية لظهر الدواب .

                                                                                                                                                                                  وفي رواية أن الجني عاوده ثلاث مرات ، قال البيهقي في دلائل النبوة من حديث أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب : " كان له " : أي لسواد بن قارب راء من الجن ، قال : بينا أنا نائم إذ جاءني فقال : قم فافهم واعقل إن كنت تفعل قد بعث رسول من لؤي بن غالب ، ثم أنشأ يقول :


                                                                                                                                                                                  عجبت للجن وأجناسها وشدها العيس بأحلاسها [ ص: 8 ] تهوي إلى مكة تبغي الهدى
                                                                                                                                                                                  ما مؤمنوها مثل أرجاسها فانهض إلى الصفوة من هاشم
                                                                                                                                                                                  واسم بعينيك إلى رأسها

                                                                                                                                                                                  قال : ثم نبهني ، وقال : يا سواد ، إن الله قد بعث نبيا فانهض إليه تسعد وترشد ، فلما كان في الليلة الثانية أتاني فنبهني ، ثم قال :


                                                                                                                                                                                  عجبت للجن وتطلابها وشدها العيس بأقتابها
                                                                                                                                                                                  تهوي إلى مكة تبغي الهدى ليس قداماها كأذنابها
                                                                                                                                                                                  فانهض إلى الصفوة من هاشم واسم بعينيك إلى نابها

                                                                                                                                                                                  فلما كان في الليلة الثالثة أتاني فنبهني فقال :


                                                                                                                                                                                  عجبت للجن وتجارها وشدها العيس بأكوارها
                                                                                                                                                                                  تهوي إلى مكة تبغي الهدى ليس ذوو الشر كأخيارها
                                                                                                                                                                                  فانهض إلى الصفوة من هاشم ما مؤمنو الجن ككفارها

                                                                                                                                                                                  قال : فوقع في قلبي الإسلام ، وأتيت المدينة ، فلما رآني رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال : مرحبا بك يا سواد بن قارب ، قد علمنا ما جاء بك ، قال : قد قلت شعرا فاسمعه مني ، فقلت :


                                                                                                                                                                                  أتاني رئي بعد ليل وهجعة فلم أك فيما قد بليت بكاذب
                                                                                                                                                                                  ثلاث ليال قوله كل ليلة أتاك نبي من لؤي بن غالب
                                                                                                                                                                                  فشمرت عن ساقي الإزار ووسطت بي الذعلب الوجناء عند السباسب
                                                                                                                                                                                  فأشهد أن الله لا رب غيره وأنك مأمون على كل غائب
                                                                                                                                                                                  وأنك أدنى المرسلين شفاعة إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايب
                                                                                                                                                                                  فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
                                                                                                                                                                                  فكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب

                                                                                                                                                                                  قال : فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه
                                                                                                                                                                                  . قوله : " إلى أرجاسها " جمع رجس وهو النجس ، وأراد بهم المشركين . قوله : " واسم " من سما يسمو : أي اعل وانظر بعينيك . قوله : " وتطلابها " التاء فيه زائدة ، هو من المصادر الشاذة ، والعيس بكسر العين وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره سين مهملة جمع عيساء .

                                                                                                                                                                                  قال ابن الأثير : العيس الإبل البيض مع شقرة يسيرة ، واحدها أعيس وعيسا ، والأقتاب جمع قتب بفتحتين ، وهو للجمل كالإكاف لغيره . قوله : " ليس قداماها " من قوادم الطير ، وهي مقاديم ريشه ، وهي عشرة في كل جناح الواحدة قادمة ، وهي القدامى أيضا ، ويقال القدامى تكون واحدة ، وتكون جمعا ، والأذناب جمع ذنب . قوله : " إلى نابها " الناب بالنون وبالباء الموحدة ، ومعناه سيد القوم ، وقال الجوهري : ناب القوم سيدهم ، والناب المسنة من الإبل النوق . قوله : " وتجآرها " التاء فيه زائدة ، وأصله من جأر إذا تضرع ، وهو من المصادر الشاذة ، والأكوار جمع كور بالضم ، وهو رحل الناقة بأداته ، وهو كالسرج وآلته للفرس ، وقال ابن الأثير : وكثير من الناس يفتح الكاف وهو خطأ . قوله : " رئي " بفتح الراء وكسر الهمزة وتشديد الياء ، وهو التابع من الجن ، وقال ابن الأثير : ريي بوزن كمي وهو فعيل أو فعول ، سمي به لأنه يتراءى لمتبوعه ، أو هو من الرأي من قولهم : فلان رأي قومه إذا كان صاحب رأيهم ، وقد تكسر راؤه لإتباعها ما بعدها . قوله : " فيما قد بليت " بالباء الموحدة : أي فيما قد جربت . قوله : " الذعلب " بكسر الذال المعجمة وسكون العين المهملة وكسر اللام ، وفي آخره باء موحدة ، وهي الناقة السريعة ، والوجناء بفتح الواو وسكون الجيم وبالنون الممدودة والهمزة في آخره ، وهي الغليظة الصلبة ، وقيل : العظيمة الوجنتين .

                                                                                                                                                                                  والسباسب بفتح السين المهملة وفتح الباء الموحدة وكسر السين الثانية ، وفي آخره باء أخرى ، وهو جمع سبسب ، وهي القفر والمفازة . قوله : " أدنى المرسلين " : أي أقربهم وأولاهم . قوله : " بينما أنا عند [ ص: 9 ] آلهتهم " : أي أصنامهم .

                                                                                                                                                                                  قوله : " بعجل " هو ولد البقرة : قوله : " يا جليح " بفتح الجيم وكسر اللام وبالحاء المهملة ، معناه الواقح الكاشف بالعداوة .

                                                                                                                                                                                  قوله : " نجيح " بفتح النون وكسر الجيم من النجاح وهو الظفر بالحوائج .

                                                                                                                                                                                  قوله : " رجل فصيح " من الفصاحة ، وفي رواية الكشميهني : " رجل يصيح " بالياء آخر الحروف من الصياحة ، ووقع في رواية : " فصيح رجل يصيح " .

                                                                                                                                                                                  قوله : " يقول لا إله إلا الله " هذا في رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره : " لا إله إلا أنت " وفي بقية الروايات مثل الأول .

                                                                                                                                                                                  قوله : " نشبنا " بفتح النون وكسر الشين المعجمة وسكون الباء الموحدة : أي ما مكثنا وتعلقنا بشيء إذ ظهر القول بين الناس بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية