الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        وأما أحكام الأضحية ، فثلاثة أنواع .

                                                                                                                                                                        الأول : فيما يتعلق بتلفها وإتلافها ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                        إحداها : الأضحية المعينة ، والهدي المعين ، يزول ملك المتقرب عنهما بالنذر ، فلا ينفذ تصرفه فيهما ببيع ولا هبة ، ولا إبدال بمثلهما ، ولا بخير منهما . وحكي وجه : أنه لا يزول ملكه حتى يذبح ويتصدق باللحم ، كما

                                                                                                                                                                        [ لو ] قال : لله علي أن أعتق هذا العبد ، لا يزول ملكه عنه إلا بإعتاق . والصحيح : الأول . والفرق : ما سبق . ولو نذر إعتاق عبد بعينه ، لم يجز بيعه وإبداله وإن لم يزل الملك عنه . ولو خالف فباع الأضحية أو الهدي المعين ، استرد إن كانت العين باقية ، ويرد [ ص: 211 ] الثمن . فإن أتلفها المشتري ، أو تلفت عنده ، لزمه قيمتها أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف ، ويشتري الناذر بتلك القيمة مثل التالفة ، جنسا ونوعا وسنا . فإن لم يجد بالقيمة المثل لغلاء حدث ، ضم إليها من ماله تمام الثمن . وهذا معنى قول الأصحاب : يضمن ما باع بأكثر الأمرين من قيمته ومثله ، وإن كانت القيمة أكثر من ثمن المثل ، لرخص حدث ، فعلى ما سنذكره إن شاء الله تعالى في نظيره . ثم إن اشترى المثل بعين القيمة ، صار المشترى ضحية بنفس الشراء . وإن اشتراه في الذمة ، ونوى عند الشراء أنها أضحية ، فكذلك ، وإلا فليجعله بعد الشراء ضحية . المسألة الثانية : كما لا يصح بيع الأضحية المعينة ، لا يصح إجارتها ، ويجوز إعارتها ، لأنها إرفاق ، فلو أجرها فركبها المستأجر فتلفت ، لزم المؤجر قيمتها ، والمستأجر الأجرة . وفي الأجرة ، وجهان . أصحهما : أجرة المثل . والثاني : الأكثر من أجرة المثل والمسمى . ثم هل يكون مصرفها مصرف الضحايا ، أم الفقراء فقط ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : الأول . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الثالثة : إذا قال : جعلت هذه البدنة ، أو

                                                                                                                                                                        [ هذه ] الشاة ، ضحية ، أو نذر أن يضحي ببدنة أو شاة عينها ، فماتت قبل يوم النحر ، أو سرقت قبل تمكنه من ذبحها يوم النحر ، فلا شيء عليه . وكذا الهدي المعين ، إذا تلف قبل بلوغ المنسك أو بعده قبل التمكن من ذبحه .

                                                                                                                                                                        الرابعة : إذا كان في ذمته دم عن تمتع ، أو قران . أو أضحية ، أو هدي عن نذر مطلق ، ثم عين بدنة أو شاة عما في ذمته ، فقد سبق خلاف في تعيينه ، والأصح التعيين . وحينئذ المذهب : زوال الملك عنها كالمعينة ابتداء ، [ ص: 212 ] لكن لو تلفت ، ففي وجوب الإبدال طريقان . قطع الجمهور بالوجوب ؛ لأن ما التزمه ثبت في ذمته ، والمعين وإن زال الملك عنه ، فهو مضمون عليه ، كما لو كان له دين على رجل ، فاشترى منه سلعة بذلك الدين ، فتلفت السلعة قبل القبض في يد بائعها ، فإنه ينفسخ البيع ، ويعود الدين كما كان ، فكذا هنا يبطل التعيين ، ويعود ما في ذمته كما كان . والطريق الثاني : فيه وجهان نقلهما الإمام . أحدهما : لا يجب الإبدال ، لأنها متعينة ، فهي كما لو قال : جعلت هذه أضحية .

                                                                                                                                                                        الخامسة : إذا أتلفها أجنبي ، لزمه القيمة ، يأخذها المضحي ، ويشتري بها مثل الأولى ، فإن لم يجد بها مثلها ، اشترى دونها ، بخلاف ما لو نذر إعتاق عبد بعينه فقتل ، فإنه يأخذ القيمة لنفسه ، ولا يلزمه أن يشتري بها عبدا يعتقه ؛ لأن ملكه هنا لم يزل عنه ومستحق العتق هو العبد ، وقد هلك ، ومستحقو الأضحية باقون . فإن لم يجد بالقيمة ما يصلح للهدي والأضحية ، ففي " الحاوي " : أنه يلزم المضحي أن يضم من عنده إلى القيمة ما يحصل به أضحية ؛ لأنه التزمها . ومن قال بهذا ، يمكن أن يطرده في اللف . وهذا الذي في " الحاوي " شاذ . والصحيح الذي عليه الجمهور : أنه لا شيء عليه ، لعدم تقصيره . فعلى هذا إن أمكن أن يشتري بها شقص هدي ، أو أضحية ، ففيه ثلاثة أوجه : الأصح : أنه يلزمه شراؤه والذبح مع الشريك ، ولا يجوز إخراج القيمة ، كأصل الأضحية ، والثاني : يجوز إخراج القيمة دراهم . فعلى هذا أطلق مطلقون : أنه يتصدق بها . وقال الإمام : يصرفها مصرف الضحايا ، حتى لو أراد أن يتخذ منه خاتما يقتنيه ولا يبيعه ، فله ذلك ، وهذا أوجه . ويشبه أن لا يكون فيه خلاف محقق ، بل المراد : أن لا يجب شقص ، ويجوز إخراج الدراهم ، وقد يتساهل في ذكر المصرف في مثل هذا .

                                                                                                                                                                        [ ص: 213 ] قلت : هذا الذي حكاه عن الإمام ، من جواز اتخاذ الخاتم ، تفريع على جواز الأكل من الأضحية الواجبة . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        والوجه الثالث : يشتري بها لحما ، ويتصدق به . وأما إذا لم يمكن

                                                                                                                                                                        [ أن يشتري ] بها شقصا ، لقلتها ، ففيه الوجه الثاني والثالث . ورتب صاحب " الحاوي " هذه الصور ترتيبا حسنا ، فقال : إن كان المتلف ثنية ضأن مثلا ، ولم يمكن أن يشتري بالقيمة مثلها ، وأمكن شراء جذعة ضأن وثنية معز ، تعين الأول رعاية للنوع ، وإن أمكن ثنية معز ودون جذعة ضأن ، تعين الأول ؛ لأن الثاني لا يصلح للضحية ، وإن أمكن دون الجذعة ، وشراء سهم في ضحية ، تعين الأول ؛ لأن التضحية لا تحصل بواحد منهما ، وفي الأول إراقة دم كامل . وإن أمكن شراء لحم ، وشراء سهم ، تعين الأول ؛ لأن فيه شركة في إراقة دم . وإن لم يمكن إلا شراء اللحم وتفرقة الدراهم ، تعين الأول ؛ لأنه مقصود الأضحية .

                                                                                                                                                                        السادسة : إذا أتلفها المضحي فوجهان . أحدهما : يلزمه قيمتها يوم الإتلاف كالأجنبي . وأصحهما : يلزمه أكثر الأمرين من قيمتها وتحصيل مثلها ، كما لو باع الأضحية المعينة وتلفت عند المشتري . فعلى هذا لو كانت قيمتها يوم الإتلاف أكثر ، وأمكن شراء مثل الأولى ببعضها ، اشترى بها كريمة أو شاتين فصاعدا . فإن لم توجد كريمة ، وفضل ما لا يفي بأخرى ، فعلى ما ذكرنا فيما إذا أتلفها أجنبي ولم تف القيمة بشاة . وهنا وجه آخر : أن له صرف ما فضل عن شاة إلى غير المثل ؛ لأن الزيادة بعد حصول المثل كابتداء تضحية . ووجه : أنه يملك ما فضل .

                                                                                                                                                                        السابعة : إذا تمكن من ذبح الهدي بعد بلوغه المنسك ، أو من ذبح الأضحية يوم النحر ، فلم يذبح حتى هلك ، فهو كالإتلاف لتقصيره بتأخيره .

                                                                                                                                                                        الثامنة : استحب الشافعي رحمه الله ، أن يتصدق بالفاضل الذي لا يبلغ شاة [ ص: 214 ] أخرى ، ولا يأكل منه شيئا . وفي معناه : البدل الذي يذبحه . وفي وجه لأبي علي الطبري : لا يجوز أكله منه ، لتعديه بالإتلاف .

                                                                                                                                                                        التاسعة : إذا جعل شاته أضحية ، أو نذر أن يضحي بمعينة ، ثم ذبحها قبل يوم النحر ، لزمه التصدق بلحمها ، ولا يجوز له أكل شيء منه ، ويلزمه ذبح مثلها يوم النحر بدلا عنها . وكذا لو ذبح الهدي المعين قبل بلوغ المنسك ، تصدق بلحمه ، وعليه البدل . ولو باع الهدي أو الأضحية المعينين ، فذبحها المشتري ، واللحم باق ، أخذه البائع وتصدق به ، وعلى المشتري أرش ما نقص بالذبح ، ويضم البائع إليه ما يشتري به البدل . وفي وجه : لا يغرم المشتري شيئا ؛ لأن البائع سلطه . والصحيح : الأول . ولو ذبح أجنبي الأضحية المعينة قبل يوم النحر لزمه ما نقص من القيمة بسبب الذبح . ويشبه أن يجيء خلاف في أن اللحم يصرف إلى مصارف الضحايا ، أم ينفك عن حكم الأضحية ويعود ملكه ، كما سنذكر مثله إن شاء الله تعالى ، فيما لو ذبح الأجنبي يوم النحر ، وقلنا : لا يقع ضحية ؟ ثم ما حصل من الأرش من اللحم ، إن عاد ملكا له ، اشترى به أضحية يذبحها يوم النحر . ولو نذر أضحية ، ثم عين شاة عما في ذمته ، فذبحها أجنبي قبل يوم النحر ، أخذ اللحم ونقصان الذبح ، وملك الجميع ، وبقي الأصل في ذمته .

                                                                                                                                                                        العاشرة : لو ذبح أجنبي أضحية معينة ابتداء في وقت التضحية ، أو هديا معينا بعد بلوغه المنسك ، فالمشهور : أنه يقع الموقع ، فيأخذ صاحب الأضحية لحمها ويفرقه ؛ لأنه مستحق الصرف إلى هذه الجهة فلا يشترط فعله كرد الوديعة ، ولأن ذبحها لا يفتقر إلى النية . فإذا فعله غيره ، أجزأ كإزالة النجاسة . وحكي قول عن القديم : أن لصاحب الأضحية أن يجعلها عن الذابح ، ويغرمه القيمة بكمالها بناء على وقف العقود . فإذا قلنا بالمشهور ، فهل على الذابح أرش ما نقص بالذبح ؟ فيه طريقان . أحدهما : على قولين . وقيل : وجهين . أحدهما : لا ؛ لأنه لم يفوت مقصودا ، بل خفف مؤنة الذبح . وأصحهما ، وهو المنصوص ، وهو [ ص: 215 ] الطريق الثاني ، وبه قطع الجمهور : نعم ؛ لأن إراقة الدم مقصودة وقد فوتها ، فصار كما لو شد قوائم شاته ليذبحها ، فجاء آخر فذبحها بغير إذنه ، فإنه يلزمه أرش النقص . وقال الماوردي : عندي أنه إذا ذبحها وفي الوقت سعة ، لزمه الأرش ، وإن لم يبق إلا ما يسع ذبحها فذبحها ، فلا أرش ، لتعين الوقت . وإذا أوجبنا الأرش ، فهل هو للمضحي لأنه ليس من عين الأضحية ولا حق للمساكين في غيرها ؟ أم للمساكين لأنه بدل نقصها وليس للمضحي إلا الأكل ؟ أم سلك به مسلك الضحايا ؟ فيه أوجه . أصحها : الثالث . فعلى هذا ، يشتري به شاة . فإن لم تتيسر ، عاد الخلاف السابق أنه يشتري به جزء ضحية أو لحم ، أو يفرق نفسه ، هذا كله إذا ذبح الأجنبي واللحم باق ، فإن أكله أو فرقه

                                                                                                                                                                        [ في ] مصارف الضحية ، وتعذر استرداده ، فهو كالإتلاف بغير ذبح ؛ لأن تعيين المصروف إليه ، إلى المضحي ، فعليه الضمان ، والمالك يشتري بما يأخذه أضحية . وفي وجه : تقع التفرقة عن المالك ، كالذبح . والصحيح : الأول .

                                                                                                                                                                        وفي الضمان الواجب قولان : المشهور ، واختيار الجمهور : أنه يضمن قيمتها عند الذبح ، كما لو أتلفها بلا ذبح . والثاني : يضمن الأكثر من قيمتها وقيمة اللحم

                                                                                                                                                                        [ لأنه فرق اللحم متعديا . وقيل : يغرم أرش الذبح وقيمة اللحم ] وقد يزيد الأرش مع قيمة اللحم على قيمة الشاة ، وقد ينقص ، وقد يتساويان . ولا اختصاص لهذا الخلاف بصورة الضحية ، بل يطرد في كل من ذبح شاة إنسان ثم أتلف لحمها . هذا كله تفريع على أن الشاة التي ذبحها الأجنبي تقع ضحية . فإن قلنا : لا تقع ، فليس على الذابح إلا أرش النقص . وفي حكم اللحم ، وجهان . أحدهما : أنه مستحق لجهة الأضحية . والثاني : يكون ملكا له . ولو التزم ضحية أو هديا بالنذر ، ثم عين شاة عما في ذمته ، فذبحها أجنبي يوم النحر ، أو في الحرم ، فالقول في وقوعها عن صاحبها وفي أخذه اللحم وتصدقه به ، وفي غرامة الذابح أرش ما نقص بالذبح ، على ما ذكرنا إذا كانت معينة في الابتداء . فإن كان اللحم تالفا ، قال صاحب " التهذيب " وغيره : يأخذ القيمة [ ص: 216 ] ويملكها ، ويبقى الأصل في ذمته . وفي هذا اللفظ ما يبين أن قولنا في صورة الإتلاف : يأخذ القيمة ويشتري بها مثل الأول ، يريد به : أن يشتري بقدرها ، فإن نفس المأخوذ ملكه ، فله إمساكه .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية