الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وذلك أنه قد يقال: إنه سبحانه ذكر ثلاثة أصناف: صنف يجادل [ ص: 264 ] في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، مكتوب عليه إضلال من تولاه.

وهذه حال المتبع لمن يضله.

وصنف يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله، وهذه حال المتبوع المستكبر الضال عن سبيل الله.

ثم ذكر حال من يعبد الله على حرف، وهذه حال المتبع لهواه، الذي إن حصل له ما يهواه من الدنيا عبد الله، وإن أصابه ما يمتحن به في دنياه ارتد عن دينه، فهذه حال من كان مريضا في إرادته وقصده، وهي حال أهل الشهوات والأهواء.

ولهذا ذكر الله ذلك في العبادة التي أصلها القصد والإرادة، وأما الأولان: فحال الضال والمضل، وذلك مرض في العلم والمعرفة، وهي حال أهل الشبهات والنظر الفاسد والجدال بالباطل. فإنه تعالى يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات، ولا بد للعبد من معرفة الحق وقصده.

كما قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [سورة الفاتحة: 6-7] فمن لم يعرفه كان ضالا، ومن علم ولم يتبعه كان مغضوبا عليه.

كما أن أول الخير الهدى، ومنتهاه الرحمة والرضوان، فذكر سبحانه ما [ ص: 265 ] يعرض في العلم من الضلال والإضلال، وما يعرض في الإرادة من اتباع الأهواء، كما جمع بينهما في قوله: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى [سورة النجم: 23] .

فقال أولا: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم [سورة الحج: 3] ، وكل من جادل في الله بغير هدى ولا كتاب منير، فقد جادل بغير علم أيضا، فنفي العلم يقتضي نفي كل ما يكون علما بأي طريق حصل، وذلك ينفي أن يكون مجادلا بهدى أو كتاب منير، لكن هذه حال الضال المتبع لمن يضله، فلم يحتج إلى تفصيل، فبين أنه يجادل بغير علم ويتبع كل شيطان مريد، كتب على ذلك الشيطان أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير.

وهذه حال مقلد أئمة الضلال بين أهل الكتاب وأهل البدع، فإنهم يجادلون في الله بغير علم، ويتبعون من شياطين الجن والإنس من يضلهم.

ثم ذكر حال المتبوع الذي يثني عطفيه تكبرا، كما قال: وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها [سورة لقمان: 7] . وقال: فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى [سورة القيامة: 31 -33] .

وهذا النوع يجادل ليضل عن سبيل الله، وجداله بغير علم أيضا، ولكن فصل حاله، فبين أنه لا يجادل بهدى كإيمان المؤمن، ولا بكتاب [ ص: 266 ] منير كالجدال بكتاب منزل من السماء، فليس معه علم من هذا الطريق ولا من غيرها.

كما قال تعالى: فلا صدق ولا صلى [سورة القيامة: 31] وكل من لم يصدق لم يصل.

وقال تعالى: لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين [سورة المدثر: 43-46] .

وقال تعالى: إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين [سورة الحاقة: 33-34] .

ومثل هذا كثير، قد ينفى الشيء الذي نفيه يستلزم نفي غيره، لكن تذكر تلك اللوازم على سبيل التصريح للفرق بين دلالة اللوازم ودلالة المطابقة، كما قد ذكرنا نحو ذلك في قوله تعالى: ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق [سورة البقرة: 42] ، وأن كل من لبس بالباطل فلا بد أن يكتم بعض الحق، وبينا أن هذا ليس من باب النهي عن المجموع المقتضي لجواز أحدهما، ولا من باب النهي عن فعلين متباينين، حتى لا يعاد فيه حرف النفي، بل هو من باب النهي عن المتلازمات. كما يقال: لا تكفر وتكذب بالرسول، ولا تجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

التالي السابق


الخدمات العلمية