الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن قيل: نحن إذا قدمنا العقل لم يبطل الشرع، بل نفوضه أو نتأوله.

قيل: إن لم يكن الشرع دالا على نقيض ما سميتموه معقولا، فليس هو محل النزاع، وإن كان الشرع دالا فتفويضه تعطيل لدلالة الشرع، وذلك إبطال له، وإذا دل الشرع على شيء، فالإعراض عن دلالته كالإعراض عن دلالة العقل.

فلو قال القائل: أنا قد علمت مراد الشارع، وأما المعقول فأفوضه لأني لم أفهم صحته ولا بطلانه، فما [أنا] جازم بمخالفته لما دل عليه الشرع، وقد رأيت المدعين للمعقولات مختلفين، فما أنا واثق بهذا المعقول المناقض للشرع - كان هذا أقرب من قول من يقول: إن الله ورسوله لم يبين الحق، بل تكلم بباطل يدل على الكفر، ولم يبين مراده فإن المقدم للمعقول عند التعارض لا بد أن يقول: إن الشرع يدل على خلاف العقل: إما نصا، وإما ظاهرا.

وإلا فإذا لم يكن له دلالة بحال تخالف العقل امتنعت المعارضة، وحينئذ فحقيقة قوله: إن الله – ورسوله - أظهر ما هو باطل وضلال [ ص: 281 ] وكفر ومحال، ولم يبين الحق ولا هدى الخلق، وإنما الخلق عرفوا الحق بعقولهم.

والمقدم للشرع يقول: إن الله - ورسوله- بين المراد، وهدى العباد، وأظهر سبيل الرشاد، ولكن هؤلاء المخالفون له ضلوا وأضلوا، وهم الذين قال الله فيهم: وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد [سورة البقرة: 176] ، فأنا أطعن فيما خالفوا به الرسول، ونبذوا به كتاب الله وراء ظهورهم، وخالفوا به الكتاب والسنة والإجماع، لا أطعن في العقليات الصحيحة الصريحة، الدالة على أن الرسول صادق بلغ البلاغ المبين، فإن هذه المعقولات يمتنع معها أن يكون الرسول هو الرسول الذي وصفوه.

فهذا القائل قد صدق بالمعقول الصريح والمنقول الصحيح، وصدق بموجب الأدلة العقلية والنقلية.

وأما ذاك القائل فإنه لم يتقبل بموجب الدليل العقلي الدال على صدق الرسول وتبليغه وبيانه وهداه للخلق، ولا قام بموجب الدليل الشرعي الذي دل عليه ما دل عليه نصا أو ظاهرا، بل طعن في دلالة الشرع وفي دلالة العقل، الذي يدل على صحة الشرع.

فتبين أن ذلك المقدم للشرع هو المتبع للشرع وللعقل الصحيح، دون هذا الذي ليس معه لا سمع ولا عقل.

ومما يوضح هذا: أن ما به عرف صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وأنه لا يكون فيه كذب ولا خطأ يدل على [ ص: 282 ] ثبوت ذلك كله، لا يميز بين خبر وخبر، بل الدليل الدال على صدقه يقتضي ثبوت جميع ما أخبر به. وإذا كان ذلك الدليل عقليا، فهذا الدليل العقلي يمنع ثبوت بعض أخباره دون بعض، فمن أقر ببعض ما أخبر به الرسول دون بعض، فقد أبطل الدليل العقلي الدال على صدق الرسول، وقد أبطل الشرع، فلم يبق معه لا عقل ولا شرع.

وهذا حال من آمن ببعض الكتاب دون بعض. قال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا [سورة النساء: 150-151] .

التالي السابق


الخدمات العلمية