الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              ثم إن الجهمي إذا بطلت حجته فيما ادعاه ، ادعى أمرا آخر فقال : أنا أجد في الكتاب آية تدل على أن القرآن مخلوق ، فقيل له : أية آية هي ؟

              قال : قول الله عز وجل : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث أفلا ترون أن كل محدث مخلوق ؟

              فوهم على الضعفاء والأحداث وأهل الغباوة وموه عليهم ، فيقال له : إن الذي لم يزل به عالما لا يكون محدثا ، فعلمه أزلي كما أنه هو أزلي ، وفعله مضمر في علمه ، وإنما يكون محدثا ما لم يكن به عالما حتى علمه ، فيقول : إن الله عز وجل لم يزل عالما بجميع ما في القرآن قبل أن ينزل القرآن وقبل أن يأتي به جبريل وينزل به على محمد صلى الله عليه وسلم .

              وقد قال : إني جاعل في الأرض خليفة قبل أن يخلق آدم [ ص: 184 ] وقال : إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين .

              يقول : كان إبليس في علم الله كافرا قبل أن يخلقه ، ثم أوحى بما قد كان علمه من جميع الأشياء .

              وقد أخبرنا عز وجل عن القرآن ، فقال : إن هو إلا وحي يوحى فنفى عنه أن يكون غير الوحي ، وإنما معنى قوله : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ، أراد : محدثا علمه ، وخبره ، وزجره ، وموعظته عند محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما أراد : أن علمك يا محمد ومعرفتك محدث بما أوحي إليك من القرآن ، وإنما أراد : أن نزول القرآن عليك يحدث لك ولمن سمعه علما وذكرا لم تكونوا تعلمونه .

              ألم تسمع إلى قوله : وعلمك ما لم تكن تعلم .

              وقال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان .

              وقال : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا .

              فأخبر أن الذكر المحدث هو ما يحدث من سامعيه وممن علمه وأنزل عليه ، لا أن القرآن محدث عند الله ، ولا أن الله كان ولا قرآن ، لأن القرآن [ ص: 185 ] إنما هو من علم الله ، فمن زعم أن القرآن هو بعد ، فقد زعم أن الله كان ولا علم ولا معرفة عنده بشيء مما في القرآن ، ولا اسم له ، ولا عزة له ، ولا صفة له حتى أحدث القرآن . ولا نقول : إنه فعل الله ، ولا يقال : كان الله قبله ، ولكن نقول : إن الله لم يزل عالما لا متى علم ولا كيف علم ، وإنما وهمت الجهمية الناس ولبست عليهم بأن يقول : أليس الله الأول قبل كل شيء ، وكان ولا شيء ، وإنما المعنى في : كان الله قبل كل شيء ، قبل السماوات وقبل الأرضين وقبل كل شيء مخلوق ، فأما أن نقول : قبل علمه ، وقبل قدرته ، وقبل حكمته ، وقبل عظمته ، وقبل كبريائه ، وقبل جلاله ، وقبل نوره ، فهذا كلام الزنادقة .

              وقوله : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ، فإنما هو ما يحدثه الله عند نبيه ، وعند أصحابه ، والمؤمنين من عباده ، وما يحدثه عندهم من العلم ، وما لم يسمعوه ، ولم يأتهم به كتاب قبله ، ولا جاءهم به رسول .

              ألم تسمع إلى قوله عز وجل : ووجدك ضالا فهدى ، وإلى قوله فيما يحدث القرآن في قلوب المؤمنين إذا سمعوه : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق فأعلمنا أن القرآن يحدث نزوله لنا علما وذكرا وخوفا ، فعلم نزوله محدث عندنا وغير محدث عند ربنا عز وجل .

              ثم إن الجهمي حين بطلت دعواه وظهرت زندقته فيما احتج به ، ادعى أمرا آخر ووهم ولبس على أهل دعوته ، فقال : أتزعمون أن الله لم يزل والقرآن ؟ فإن [ ص: 186 ] زعمتم أن الله لم يزل والقرآن ، فقد زعمتم أن الله لم يزل ومعه شيء .

              فيقال له : إنا لا نقول كما تقول ولا نقول : إن الله لم يزل ، والقرآن لم يزل ، والكلام لم يزل والعلم ، ولم يزل والقوة ، ولم يزل والقدرة ، ولكنا نقول كما قال : وكان الله قويا عزيزا ، وكما قال : ذلك تقدير العزيز العليم .

              فنقول : إن الله لم يزل بقوته ، وعظمته ، وعزته ، وعلمه ، وجوده ، وكرمه ، وكبريائه ، وعظمته ، وسلطانه ، متكلما عالما ، قويا ، عزيزا ، قديرا ، ملكا ، ليست هذه الصفات ولا شيء منها ببائنة منه ، ولا منفصلة عنه ، ولا تجزأ ولا تتبعض منه ، ولكنها منه وهي صفاته .

              فكذلك القرآن كلام الله ، وكلام الله منه ، وبيان ذلك في كتابه :

              قال الله عز وجل : سلام قولا من رب رحيم .

              وقال : ولكن حق القول مني .

              وقال : فحق علينا قول ربنا .

              وقد أخبرنا الله أن الأشياء إنما تكون بكلامه ، فقال : فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ ص: 187 ] .

              وقال : قلنا لا تخف .

              وقال : قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، فبقول الله عز وجل صار أولئك قردة ، وبقوله أمن موسى ، وبقوله صارت النار بردا وسلاما .

              ثم إن الجهمي الملعون غالط من لا يعلم بشيء آخر ، فقال : قوله عز وجل : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ، فقال : كل ما أتى الله عز وجل بخير منه أو مثله ، فهو مخلوق .

              فكان هذا إنما غالط به الجهمي من لا يعلم ، وإنما أراد الله عز وجل بقوله : نأت بخير منها يريد بخير لكم ، وأسهل عليكم في العمل وأنفع لكم في الفعل .

              ألا ترى أنه كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الأمر الذي فيه الشدة ثم ينسخه بالسهولة والتخفيف ؟

              من ذلك أن قيام الليل والصلاة كانت مفروضة فيه على أجزاء معلومة وأوقات من الليل في أجزائه مقسومة ، فعلم الله عز وجل ما على العباد في ذلك من الشدة والمشقة وقصور عملهم عن إحصاء ساعات الليل وأجزائه ، فنسخها بصلاة النهار وأوقاته .

              فقال عز وجل : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب [ ص: 188 ] عليكم .

              يقول : علم أن لن تطيقوه ، فنسخ ذلك ، فقال : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ، و : أقم الصلاة لدلوك الشمس .

              ومن ذلك أن الصيام كان مفروضا بالليل والنهار ، وأن الرجل كان إذا أفطر ونام ثم انتبه لم يحل له أن يطعم إلى العشاء من القابلة فنسخ ذلك بقوله : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم . . . إلى قوله : فتاب عليكم وعفا عنكم . . . إلى قوله : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر .

              ومثل قوله : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، وكان هذا أمرا لا يبلغه وسع العباد ، فنسخ ذلك بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم ، فهذا ونحوه كثير ، تركنا ذكره لئلا يطول الكتاب به ، أراد الله عز وجل بنزول الناسخ رفع المنسوخ ، وليكون في ذلك خيرة للمؤمنين وتخفيفا عنهم ، لا أنه يأتي بقرآن خير من القرآن الأول ، وإنما أراد خيرا لنا وأسهل علينا .

              ألم تسمع إلى قوله : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم [ ص: 189 ] وعفا عنكم ، علم أن لن تحصوه فتاب عليكم ، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .

              فهذا وشبهه في القرآن كثير ، لا أن في القرآن شيئا خيرا من شيء ، ولو جاز ذلك ، لجاز أن يقال : سورة كذا خير من سورة كذا ، وسورة كذا شر من سورة كذا .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية