الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              قال : قلت : قد قدمت إلى أمير المؤمنين فيما احتججت به أن على المؤمنين أن يثبتوا ما أثبت الله وينفوا ما نفى الله ، ويمسكوا ما أمسك الله ، فأخبرني الله أنه عالم ، فقلت : إنه عالم بقوله : عالم الغيب والشهادة ، وأخبرني أن له علما بقوله : فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ، وأخبرني أنه سميع بصير ، فقلت بالخبر ولم يخبرني أن له سمعا وبصرا ، فأمسكت .

              فقال المأمون : ما هو مشبها ، فلا تكذبوا عليه .

              فقال لي بشر : فما معنى العلم لو أن رجلين وردا عليك فقالا ما معنى العلم ؟ فحلف أحدهما بالطلاق أن العلم هو الله ، وقال الآخر : أن العلم غير الله ، ما كان جوابك ؟

              قلت : أما مسألتك إياي ما معنى العلم ، فإنك تسألني عما لم يخبرني الله به ولم يخبر أحدا ، فأمرتني أن أقول على الله ما لم أعلم كما أمر الشيطان ، فأولى الأمرين بي أن أمسك عما حرم الله علي أن أقول به ، وأمرني الشيطان أن أقوله .

              قال الله عز وجل : إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما [ ص: 235 ] لا تعلمون .

              وقال : ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون .

              ثم أقبلت على المأمون ، فقلت : يا أمير المؤمنين! إن بشرا قد علم أنه قد أفحم فلم يكن عنده جواب ، فيسأل عما لم يكن له أن يسأل عنه ولا يكون لي أن أجيب عنه ، فأراد أن يقول إن عبد العزيز سأل بشرا عن مسألة فلم يجبه ، وسأل بشر عبد العزيز فلم يجبه ، فأنا وبشر يا أمير المؤمنين من مسألتي ومسألته على غير السواء ، سألته عما أعلمه الله به ووقعه عليه بالإعلام وتعبده بالإيمان به لقوله : وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب ، فأبى أن يقر به ، وسألني عن معنى العلم وقد ستر الله ذلك عني وعنه ، وإنما يدخل النقص علي لو كان بشر يعلم أو أحد من العلماء ما العلم ، فأما ما نجتمع أنا وبشر والخلق في الجهل بمعرفته ، فلم يكن الضرر داخلا علي دونه ، وهذه مسألة لا يحل لمؤمن أن يسأل عنها ولمؤمن أن يجيب فيها ، لأن الله عز وجل أمسك عن أن يخبر كيف علمه ، فلم يكن لأحد أن يتكلفه ولا يخبر عنه ولا لسائل أن يسأل عنه ، فلما كان علينا أن نقول سميعا بصيرا ، قلنا ، وليس لنا أن نقول : سمع وبصر .

              قال عبد العزيز : " وقلت لبشر : حين تسألني ما معنى العلم وتشير علي أن أقول على الله ما لم يقله ، هل تجوز هذه المسألة في خلق من خلق الله ؟

              قد قال الله عز وجل : إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ، فلو ورد علي ثلاثة نفر فحلف أحدهم أن الأقلام خشب ، وحلف الآخر أنها قصب ، [ ص: 236 ] وحلف الآخر أنها خوص ، كان علي أن أميز بين قول هؤلاء ؟ !

              وقال الله عز وجل : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ، فلو ورد علي رجلان فحلف أحدهما أنه الزهرة ، وحلف الآخر أنه المشتري ، أكان علي أن أنظر بين هذين أيهما المصيب من المخطئ ؟ !

              وقال عز وجل : فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين ، فلو أن ثلاثة نفر حلفوا فقال أحدهم : المؤذن ملك ، وقال الآخر : هو إنسي ، وقال الآخر : هو جني ، كان علي أو على أحد من الناس أن يقضي بينهم إلا أن يكون الله أخبر في كتابه كيف ذلك وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ وإذا لم يوجد شيء من هذا عن الله ولا عن رسوله ، لم يكن لأحد أن يصل الخبر بتفسير من تلقاء نفسه ، فإذا كان هذا لا يجوز في خلق من خلق الله ، فكيف تجوز المسألة في الله وقد حرم الله عز وجل على الناس أن يقولوا على الله ما لا يعلمون ؟

              قال عبد العزيز : " ورأيته قد حار في يدي ، فقلت : يا أمير المؤمنين! احتج بشر بقوله تعالى : خالق كل شيء ، فليعط بالمكيال الذي أراد أن يأخذ به إن كان صادقا .

              قال الله عز وجل : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، كتب ربكم على نفسه الرحمة .

              وقال : ويحذركم الله نفسه [ ص: 237 ] .

              وقال : واصطنعتك لنفسي ، فأخبر أن له نفسا .

              وقال : كل نفس ذائقة الموت ، فلو أن ملحدا ألحد علي وعلى بشر ، فقال : قد أخبر الله أن كل نفس ذائقة الموت ، وأن له نفسا ، ما كانت الحجة لي وله عليه .

              قال : فقال بشر : إن كنت تريد نفس ضمير أو توهم جارحة .

              فقلت : كم ألقي إليك أني أقول بالخبر وأمسك عن علم ما ستر عني ، وإنما أقول : إن لله نفسا كما قال ، فليكن معناها عندك ما شئت ، أهي داخلة في قوله : كل نفس ذائقة الموت ؟ إلى كم تفر إلى المعاني ؟ انظر هل أجري معك حيث تجري ؟

              قال : فقال المأمون : ويحك يا عبد العزيز! كيف هذا ؟

              قلت : " يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل أنزل القرآن بأخبار خاصة وعامة ، ففيها ما يكون مخرجها مخرج العموم ومعناها معنى العموم ، ومنه خبر مخرج لفظه مخرج خاص ومعناه معنى خاص ، منهما خبران محكمان لا ينصرفان بإلحاد ملحد ، ومن القرآن خبر مخرج لفظه خاص ومعناه عام ، وخبر مخرج لفظه عام ومعناه خاص ، وفي هذه دخلت الشبه على من لم يعرف خاص القرآن [ ص: 238 ] وعامه ، فأما الخبر الذي مخرجه عام ومعناه عام ، فقوله : وله كل شيء فجمع هذا الخبر الخلق والأمر فلم يبق شيء إلا وقد أخبر أنه له ، فمخرجه عام ومعناه عام ، وأما الخبر الذي مخرجه خاص ومعناه خاص فما قدم في عيسى عليه السلام أنه خلق من غير أب ، وفي آدم عليه السلام .

              وقال : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، فلم يتوهم مؤمن أن الله عز وجل عنى آدم وعيسى .

              وأما الخبر الذي مخرجه خاص ومعناه عام ، فهو قوله : وأنه هو رب الشعرى ، فهو رب الشعرى وغير الشعرى .

              وأما الخبر الذي معناه خاص ، فهو قوله : إلا آل لوط نجيناهم بسحر ، إنما كان معناه خاصا ، لأن امرأة لوط لم تعن ، ولما أنزل الله عز وجل القرآن على معاني هذه الأخبار ، لم يتركها أشباها على الناس ، ولكن بيانها خاص لقوم يفهمون ، وإذا أنزل الله خبرا مخرج لفظه خاص ومعناه عام ، بين في أكثر ذلك ما بينه بأحد بيانين : إما أن يستثني من الجملة شيئا فيكون بيانا للناس أكملهم . أو يقدم فيهم خبرا خاصا فلا يعنيه ، فإذا أنزل خبرا عاما لم يتوهم عالم أنه عني في خبره العام خلاف ما خصه ونصه [ ص: 239 ] .

              وأما الخبر الذي بين له على العموم ثم يستثني ما لم يعنه ، فهو قوله : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فعقل المؤمنون أن الألف سنة لم يستكملها نوح في قومه قبل الطوفان بقول الله عز وجل : إلا خمسين عاما ، فكان ابتداء لفظه عاما ومعناه خاص بالاستثناء .

              وأما الخبر الخاص الذي لا يجري عليه الخبر العام ، فهو كقوله في إبليس : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ، وقال : ورحمتي وسعت كل شيء ، فعقل أهل العلم ، عن الله أنه لم يعن إبليس بقوله : ورحمتي وسعت كل شيء ، لما قدم فيه من الخبر الخاص باليأس من رحمة الله لأن من سنته أن لا يترك الذي لا يعني حتى يخرجه بالاستثناء أو محاشاة ، فيقدم فيه خبرا كقوله : إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين .

              قال إبراهيم عليه السلام : إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ، فاستثنى لوطا من أهل القرية ، واستثنى امرأة لوط من آل لوط .

              وقال في موضع آخر : إلا امرأته قدرناها من الغابرين وقال [ ص: 240 ] : منجوك وأهلك إلا امرأتك ، فخص المرأة بالهلاك ، وأنزل خبرا مخرجه مخرج عام ، ومعناه خاص ، فقال : إلا آل لوط نجيناهم بسحر ، فعقل المؤمنون عن الله أنه لم يعن امرأة لوط بالنجاة ، لما قدم فيها من الخبر الخاص بالهلكة ، وكذلك حين قدم في نفسه خبرا خاصا ، فقال : وتوكل على الحي الذي لا يموت .

              ثم قال : كل نفس ذائقة الموت لم يكن لأحد أن يتوهم على الله أنه عنى نفسه ، وكذلك حين قدم في قوله خبرا خاصا ، فقال : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ، فدل على قوله باسم معرفة وعلى الشيء باسم نكرة فكانا شيئين متفرقين ، فقال : إذا أردناه ولم يقل : إذا أردناهما ولم يقل أن يقول لهما ثم قال كن فيكون ، ففرق بين القول والشيء المخلوق .

              ثم قال : خالق كل شيء ، فعقل أهل العلم عن الله أنه لم يعن قوله في جملة الأشياء المخلوقة حين قدم فيه خبرا أنه خلق الأشياء بقوله ، وإنما غلط بشر يا أمير المؤمنين ومن قال بقوله بخاص القرآن وعامه .

              قال عبد العزيز : " ثم أقبلت على المأمون ، فقلت : يا أمير المؤمنين! إن بشرا خالف كتاب الله وسنة رسوله ، وإجماع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم [ ص: 241 ] .

              فقال : أوفعل ذلك ؟

              قلت : " نعم يا أمير المؤمنين ، أوقفك عليه الساعة " .

              فقال لي : كيف ؟

              قلت : إن اليهود ادعت تحريم أشياء في التوراة ، فقال الله عز وجل : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فإذا تليت التوراة فلم يوجد ما ادعوا ، كان إمساك التوراة مسقطا لدعواهم ، وكذلك يقال لبشر : اتل بما قلت قرآنا وإلا فإن إمساك القرآن بما تدعي مسقط لدعواك ، وكذلك تنظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت معه سنة من رسول الله وإلا كان إمساك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مسقط لدعواه ، وأما خلافه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن أصحاب محمد اختلفوا في الحلال والحرام ومخارج الأحكام ، فلم يخطئ بعضهم بعضا ، فهم من أن يبدع بعضهم بعضا أبعد ، وهم من أن يكفر بعضهم بعضا بالتأويل أبعد ، وبشر ادعى على الأمة كلها كلمة تأولها ، ثم زعم أن من خالفه كافر ، فهو خارج من إجماع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

              قال بشر : ما ادعيت إلا نص التنزيل .

              قال : " قلت له : هات ، فأنا أول من يقول بقولك إن كان معك تنزيل ومن خالف فكافر .

              قال : فقال محمد بن الجهم : أولا تقبل منه إلا نص القرآن ؟ [ ص: 242 ]

              قلت : لا ، لأنه إذا تأول فلخصمه أن يتأول معه .

              قال : فقال لي محمد بن الجهم : ومن أين لك من القرآن أن هذا الحصير مخلوق ؟

              قلت : هو في القرآن من حيث لا تعلم ، وقد أخبر الله أنه خلق الأنعام وخلق الشجرة ، وهذا الحصير من الشجر ومن جلود الأنعام ، فمعك أنت شيء تخبرني أن القرآن من ذلك الشيء الذي خلقه الله ؟

              قال بشر : معي نص القرآن .

              قال : فقلت : فكيف لم تأتني به أولا حين قلت لك : ارمني بأحد سهم في كنانتك ؟

              قال : فقال نعم ، قول الله عز وجل : إنا جعلناه قرآنا عربيا .

              قلت : لا أعلم أحدا من المؤمنين لا يقول إن الله قد جعل القرآن عربيا وكل المؤمنين يقولون : إن الله قد جعل القرآن عربيا ، فقد قالوا معك بالتنزيل ولم يخالفوا التنزيل ، وأنت إنما كفرت القوم بمعنى جعل لأن معنى جعل عندك معنى خلق .

              قال بشر : ما بين جعل وخلق فرق .

              قلت لبشر : أخبرني عن جعل عندك حرف محكم لا يحتمل إلا معنى خلق ؟

              قال : نعم ، لا يعقل جعل في لغة من اللغات إلا معنى خلق [ ص: 243 ] .

              قلت : فأخبرني عن قول الله عز وجل : وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، معناه معنى خلقتم ؟ أخبرني عن قول الله عز وجل : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم ، معناه : لا تخلقوا ؟ أخبرني عن قوله : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا . معناه : لا تخلقوا ؟ .

              قال : فقال لي المأمون : فما معناه ؟

              قال : قلت : يا أمير المؤمنين! هذا رجل جاهل بلغة قومك ، إن جعل في كتاب الله يحتمل معنيين : معنى خلق ، ومعنى تصيير غير خلق ، فلما كان خلق حرفا محكما لا يحتمل معنيين ، ولم يكن من صناعة العباد ، لم يتعبد الله الخلق به ، فيقول : اخلقوا أو لا تخلقوا ، إذ لم يكن الخلق من صناعة المخلوقين ، ولما كان جعل يحتمل معنيين : معنى خلق وهو معنى تفرد الله به دون الخلق ، ويحتمل معنى غير الخلق ، خاطب الخلق بالأمر به والنهي عنه ، أفقال : اجعلوا ولا تجعلوا ؟

              ألم تسمع إلى قوله : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا وقوله : واجعلوا بيوتكم قبلة ، ولما كان جعل يحتمل معنيين من الله : معنى خلق ، ومعنى تصيير غير خلق ، لم يدع ذلك لبسا على المؤمنين [ ص: 244 ] حتى جعل على كل كلمة علما ودليلا ، ففرق بين معنى جعل الذي يكون على معنى خلق وبين جعل الذي معناه غير معنى خلق ، فأما معنى جعل الذي هو على معنى خلق ، فإن الله عز وجل أنزل القرآن به مفصلا وهو بيان لقوم يفقهون ، وأنزل القول مفصلا يستغني السامع إذا أخبر عنه أن يوصل الكلمة بكلمة أخرى من ذلك قوله : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، فسواء ، قال : جعل أو خلق .

              وقوله : وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة .

              وقوله : وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، فهذا وما كان على مثاله على معنى خلق .

              وأما جعل الذي معناه على غير معنى الخلق فهذا من القول الموصل ، ألم تسمع إلى قوله : ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون ، كقوله [ ص: 245 ] : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض ، فلما قال : جعلناك خليفة لم يدع الكلمة إذ لم تكن على معنى خلق حتى وصلها بقوله : خليفة .

              وقوله : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ، فلم يأمرها أن تلقيه في اليم إلا وهو مخلوق ، ثم قال : إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، فقد كان في وقت مخلوقا ولم يكن مرسلا حتى جعله مرسلا .

              وقوله : فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا ، وقد كان الجبل مخلوقا قبل أن يجعله دكا ، فهذا وما على مثاله من القول الموصل ، فنرجع أنا وبشر يا أمير المؤمنين ، فيما اختلفنا فيه من قول الله : إنا جعلناه قرآنا عربيا ، فما كان من القول الموصل ، فهو كما قلت أنا : إن الله جعله عربيا ، بأن صيره عربيا ، وأنزله بلغة العرب ، ولم يصيره أعجميا فينزله بلغة العجم .

              وإن كان الموصل كقوله : وجعل الظلمات والنور ، فهو كما قال بشر .

              وإنما دخل عليه الجهل لقلة معرفته بلغة أهل اللسان ، فلو أن رجلا ، قال : اللهم اجعل لي ولدا ، لكان يعقل من بحضرته أنه سأل ربه أن يخلق له ولدا ، إذ لم يصل الكلمة بكلمة ثانية ، ولو ، قال : اللهم اجعل ولدي ، كان هذا الكلام لا يتم [ ص: 246 ] بهذا الإخبار عنه ، حتى يقول : اجعله صالحا ، اجعله بارا ، اجعله تقيا ، فيعقل عنه أنه إنما أراد أن يصيره بارا ، ولم يرد أن يخلقه ، لأن الله قد خلقه .

              ألم تسمع إلى قول الله : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك .

              ولم يرفعا القواعد إلا وهما مخلوقان ، وحين قالا : واجعلنا ، لم يدركا المسألة حتى قال : مسلمين لك . فهذا وما كان على أمثاله في القرآن على غير معنى الخلق .

              ثم أقبل المأمون على بشر ، فقال : كلم عبد العزيز ، فقال : يا أمير المؤمنين! لم أكلمه ؟ هذا رجل يقول بالأخبار وأنا أقول بالقياس .

              فقال له المأمون : وهل ديننا إلا الأخبار ؟

              قال : فأردت أن أعلمه أن الكلام في القياس لم يفتني في الموضع الذي يجب لي القول به ، وكان جلس أمير المؤمنين مجلس الحاكم من الخصم ، فقلت : يا أمير المؤمنين لو كان لبشر غلامان ، وأنا لا آخذ علمهما عن أحد من الناس إلا عنه ، يقال لأحدهما خالد والآخر يزيد ، فكتب إلي ثمانية عشر كتابا يقول في كل كتاب منها : ادفع هذا الكتاب إلى خالد غلامي ، [ ص: 247 ] وكتب إلي مائة وأربعة وخمسين كتابا يقول في كل كتاب منها : ادفع هذا الكتاب إلى يزيد ، ولا يقول : غلامي ، وكتب إلي كتابا ، فقال : ادفع هذا الكتاب إلى يزيد وإلى خالد غلامي ، وكتب إلي كتابا واحدا يقول فيه : خالد غلامي ويزيد ، ولم يقل : غلامي ، فكتب إليه : إني قد دفعت الكتاب إلى يزيد ، وإلى خالد غلامك ، فلقيني فقال : لم لم تكتب إلي أنك دفعت الكتاب إلى خالد ويزيد غلامي ، فقلت له : قد كتبت إلي مائة كتاب وأربعة وخمسين كتابا تقول : ادفع هذا الكتاب إلى يزيد ، ولا تقول فيها : غلامي ، وكتبت إلي ثمانية عشر كتابا تقول فيها : إلى خالد غلامي .

              فقال لي بشر : فرطت ، فحلفت أنا : إن بشرا فرط وحلف بشر أني فرطت ، أينا كان المفرط يا أمير المؤمنين ؟

              فقال المأمون : إذا كان هكذا ، فبشر المفرط .

              فقلت : يا أمير المؤمنين! إن الله عز وجل أخبرنا عن ذكر القرآن في أربعة وخمسين ومائة موضع ، فلم يخبر عن خلقه في موضع واحد ، ثم جمع بين القرآن والإنسان في موضع واحد ، فقال : الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ، ففرق بين القرآن والإنسان ، وزعم بشر أن الله فرط في الكتاب ، إذ كان القرآن مخلوقا ، وعليه أن يخبر بخلق القرآن .

              قال عبد العزيز : فأخبرني أبو كامل الخادم أن المأمون كان يقول : ما مر بكم مثل المكي قط في خالد ويزيد [ ص: 248 ] .

              فأمر له يعني : لعبد العزيز بعشرة آلاف درهم ، وأمر أن تجري له الأرزاق ، وجرت بينه وبين المأمون بعد أشياء لم تذكر في هذا الكتاب .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية