الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا كانت الصلاة التي يتلى فيها الكتاب يتعين وقتها بالفعل، فتلزم بالشروع، فكذلك الجهاد، فإذا صار المسلمون حذوهم أو حاصروا حصنهم لم يكن لهم الانصراف حتى يقضى الجهاد، كما قال تعالى: إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار الآية . وقد أمر سبحانه بالأمرين في حال القتال، فقال: إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا ، فأمر بالثبات الذي هو مقصود الجهاد، وبذكره الذي هو مقصود الصلاة، كما قال ابن مسعود: ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة ولو كنت في السوق.

ولهذا يقرن سبحانه كثيرا بين الأمر بالصلاة والأمر بالصبر الذي هو حقيقة الجهاد، كقوله: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ، استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ، وقال: وأقم الصلاة طرفي النهار إلى قوله: واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ، وقال: فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، وكذلك في ق والطور [ ص: 316 ] وغافر ، وقوله: واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا إلى قوله: واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ، وقال تعالى: إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا .

فأمر سبحانه بهذا وبهذا، وكلاهما وإن كان ينقسم بحسب فعله ووقته إلى موسع ومقدر، وبحسب فعله إلى معين ومخير، وبحسب فاعله إلى واجب على الأعيان وواجب على الكفاية، فهما مشتركان في أن ما كان كذلك يلزم بالشروع فيه إتمامه، فما كان وقته موسعا يتعين بالدخول فيه، وما كان واجبا على الكفاية يتعين على من باشره.

والمقصود هاهنا أنه قد يجتمع الواجبان في وقت واحد، وله صورتان:

إحداهما: أن لا يكون مباشرا للجهاد، بل مصابرا للعدو، فهذا يصلي صلاة الخوف إذ كان ... له، كما صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة على وجوه خلاف الوجوه المعتادة في الأمن، فيسوغ فيها استدبار القبلة، والعمل الكثير في نفس الصلاة، ومفارقة الإمام قبل السلام، واقتداء المفترض فيها بالمتنفل، والتخلف عن متابعة الإمام حتى يصلي ركعة. وهذه الأمور فيها ما لا يفعل إلا لعذر بالاتفاق، وفيها ما [ ص: 317 ] لا يسوغ فعله أكثر العلماء.

والثاني: أن يكون محتاجا إلى مباشرة القتال في حال الصلاة، وهو الذي قصدناه بهذا الفصل، فهذه تسمى صلاة المسايفة، لأن المسايفة هي أحوال المقاتلين، وإلا فالمطاعنة والمداناة والمضاربة بالمثقلات من الحجارة والدبابيس ونحو ذلك، سواء كان القتال بمحدد أو مثقل أو ما يجمعهما، فيه ثلاثة أقوال:

أحدها -وهو المشهور من مذهب أحمد، وهو مذهب الشافعي- أنه يأتي بالواجبين جميعا، وأن تأخير الصلاة منسوخ بآية المحافظة.

والثاني -وهو الرواية الأخرى عن أحمد- أنه يخير بين تقديم الصلاة وتأخيرها، لحديث بني قريظة.

والثالث -وهو قول طائفة- أنه يؤخر الصلاة على ظاهر الأمر، وهذا قول جماعة من أهل الرأي وأهل الظاهر.

التالي السابق


الخدمات العلمية